مكافحة الفساد هي اللافتة التي تم تصديرها لاعتقال مجموعة من كبار رجال الأعمال والأمراء في السعودية، ولا تزال تداعيات القضية مستمرة منذ بدايتها في مطلع نوفمبر 2017، آخر هذه التداعيات ما صرح به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لوكالة رويترز بأن “الموقوفين على ذمة قضايا الفساد وافق معظمهم على التسوية، وأنه يتوقع أن تصل هذه التسويات إلى نحو 100 مليار دولار، سوف تعود لخزانة الدولة”.
ولكن الأمر لن يتوقف عن قبول أو رفض البعض من رجال الأعمال والأمراء لعملية التسوية، فهناك أطراف أخرى وصلت إليها رسائل تتعلق بوضعهم المالي، وطبيعة العمل في مجال العمل التجاري والاقتصادي بالمملكة، وعلى الجميع أن يستعد لقواعد اللعبة الجديدة.
ثمة تحليلات تذهب إلى أن الخطوة التي اتخذها محمد بن سلمان تجاه هذه المجموعة من رجال الأعمال والأمراء بمثابة تثبيت أركان حكمه القادم بعد فترة قصيرة، وأن الغرض من هذه الخطوة كان التخلص ممن يراهم يشكلون حجر عثرة في طريق وصوله إلى العرش في السعودية، وأن الأمر سيتوقف عند هذا الحد.
وفي ظل شبكة العلاقات للموقوفين على ذمة قضية الفساد، وكذلك ما تمر به المنطقة من تداعيات اقتصادية وسياسية، فإن خطوة التسوية بين رجال الأعمال والحكومة السعودية تعكس مجموعة من الدلالات.
كثير من علامات الاستفهام تعكسها خطوة بن سلمان في إطار مكافحة الفساد، وقبول الغالبية من رجال الأعمال والأمراء الموقفين التسوية، في ظل البيانات التي تظهرها منظمة الشفافية الدولية عن وضع الفساد بالمملكة، عبر مؤشرها السنوي للشفافية. حيث تبين أن الوضع في السعودية في تحسن منذ عام 2012 وحتى عام 2015، حيث أن السعودية حصلت على 44 درجة من إجمالي 100 درجة في عام 2012، وارتفع أداء السعودية حتى وصل إلى 52 درجة في 2015، وهي أول مرة تتجاوز فيها السعودية نسبة 50% من درجات المؤشر.
وإذا كانت السعودية تشهد هذا التحسن في مجال الشفافية على مدار الفترة 2012 – 2015، فمتى مارس رجال الأعمال والأمراء المتهمين الفساد؟ لابد أن هناك ثمة أخطاء في حسابات المؤشر أو أن الأمر خارج نطاق حسابات الفساد.
الأمر الثاني وفق بيانات منظمة الشفافية هو أن السعودية تراجعت على نفس المؤشر في عام 2016، لتحصل على 46 درجة، بتراجع نحو 6 درجات عن عام 2015، وهو ما يعني أن الفساد زاد في عهد سلمان وابنه. وهل يُنتظر بعد محاسبة رجال الأعمال والأمراء الكبار على فسادهم، وإنهاء القضية عبر التسوية، أن يتحسن وضع السعودية على مؤشر الشفافية في عام 2017؟
تربى القطاع الخاص السعودي في كنف الدولة، وتسبب ذلك في وجود احتكارات وممارسات فساد بالفعل، ولكن إنهاء ملفات الفساد عبر التسوية دون محاكمات ونشر الحقائق، سوف يؤدي إلى حالة من الترقب لدى المستثمرين، فقد تؤدي هذه الخطوة إلى تصرف كبار رجال الأعمال بخروج المزيد من رؤوس أموالهم للخارج، مخافة أن يدرجوا في قائمة المحاسبة.
كما أن الصف الثاني من رجال الأعمال سوف يحدد موقفه بناء على ما يتخذ من خطوات لكسر احتكار كبار رجال الأعمال للتعاقدات الحكومية، وتنفيذ المشروعات العامة.
أما الاستثمارات الأجنبية، فهي على يقين من أن ثمة تسيس للقرارات الخاصة بمكافحة الفساد في السعودية، وسوف يتوقف قرارها بالإقدام على الخروج من السوق السعودي من عدمه، على قوة موقف الدول التي تنتمي إليها هذه الاستثمارات، حيث تضمن لها دولها عدم المساس بها، أو الزج بأصحابها في معترك السياسة الداخلية للملكة.
في ظل المجتمعات التي لا تشهد مناخاً ديمقراطياً، تتوجس الإدارة الحكومية، من مثل هذه الخطوات المعنية بمواجهة الكسب غير المشروع، وتدار الأمور في إطار ما يسمى بسياسة “الأيدي المرتعشة”، فالجميع يخشى المحاسبة، ويميل المعنيون بالإدارة العليا والمتوسطة إلى اتخاذ القرارات الجماعية، حتى لا يتورطون في اعتماد قرارات أو اتخاذ خطوات تؤدي بهم إلى السجن.
وسوف تؤدي هذه الروح لمزيد من البيروقراطية، وبطء التعاملات الحكومية، وبخاصة فيما يتعلق بصرف مستحقات المتعاملين مع الجهاز الحكومي. كما قد يتعسف البعض في تطبيق القوانين التي تقضي تحصيل رسوم أو مقابل للخدمات الحكومية، وهو ما سيحمل المواطنين المزيد من الأعباء في ظل أزمة اقتصادية حقيقة يعيشها الكثير من أفراد المجتمع السعودي.
في ظل العلاقات المتشابكة على الصعيدين السياسي والاقتصادي لمجموعة رجال الأعمال والأمراء، يُنتظر أن يقبلوا بعملية التسوية كتكتيك، ثم مواجهة بن سلمان خارج المملكة، بغض النظر عن كونهم أبرياء أم مدانين، وهو ما ظهرت بوادره بعد الإفراج عن بعضهم، حيث هاجم رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، خلال مؤتمر في روما، حملة مكافحة الفساد في السعودية ووصفها بأنها تفتقد للشفافية وإعمال القانون، وحذر من أن هذه الخطوة سوف تضر بالاستثمار في السعودية وقد تساعد على خروج رؤوس الأموال من المملكة، كما ستساعد على تخوف الاستثمار الأجنبي من المجيئ للسعودية.
ونحسب أن ثمة ردود أفعال أخرى سوف تصدر من قبل رجال أعمال وساسة، لهم علاقات بمتهمي قضية الفساد بالسعودية، وهو ما سيمثل ورقة ضغط على بن سلمان، سواء في تلك القضية، أو في خطواته بتوسيع دائرة المحاسبة في إطار ما يسمى بالكسب غير المشروع.
ومن المتوقع أن تكون مؤسسة الحكم في مرمى نيران رجال الأعمال الموقوفين وداعميهم خلال الفترة القادمة، بعد حصولهم على جزء من ثرواتهم، وهو ما تبدى من تصريحات ساويرس، حيث أشار إلى أن بن سلمان كان جزءاً من هذه الممارسات، وتساءل كيف كوَّن هذا الشاب ثروته.
ولكن على الجانب الآخر قد تشجع عملية إنهاء ملفات الفساد بالتسوية دون السجن، بعض المخالفين بتقديم ملفاتهم طواعية، ورد ما حصلوا عليه من أموال دون وجه حق للدولة.
حسب تصريح بن سلمان فإن عوائد التسوية مع الموقوفين بقضية الفساد سوف تعود إلى الخزانة السعودية، والمعروف أن الخزانة السعودية تعاني من أزمة منذ انهيار أسعار النفط في السوق الدولية منتصف 2014، وكذلك دخول المملكة في حرب اليمن، وقيادتها للتحالف المحارب للحوثيين هناك، وقد ظهرت النتائج السلبية اقتصادياً على المملكة من خلال ارتفاع عجز الموازنة ليصل إلى 29% في عام 2016، وتجاوز الدين العام لسقف الـ 100 مليار دولار، واتخاذ السعودية لمجموعة من الإجراءات الاقتصادية التي أدت إلى تراجع مخصصات الدعم، وتحميل المواطن بجزء لا يستهان به من تكلفة الخدمات العامة التي يتحصل عليها منذ سنوات بشكل شبه مجاني.
ولكن الأمر هنا يستدعي إصلاحات أكبر من الاعتماد على عوائد مواجهة جرائم الكسب غير المشروع في المملكة، فهناك كثير من الصفقات التي أبرمها بن سلمان نفسه، وكذلك أوجه إنفاق لا تخضع للمحاسبة، من شأنها أن تحسن من وضع الخزانة العامة.
سوف تثبت المرحلة المقبلة، إن كانت الخطوة التي اتخذها بن سلمان انتقائية، ولها دلالاتها السياسية، أم هي توجه حقيقي لمواجهة الفساد.