متغيرات سياسية واجتماعية لها تداعياتها الاقتصادية لكن يظل النظام السعودي ممسكا بمفاصل هذا الاقتصاد.
خروج النساء السعوديات للعمل مشاركة للرجل في المعاناة الاقتصادية والاجتماعية وليس تحسنا في أوضاعهن الاقتصادية.
الإنفاق الحكومي الكبير على مشروعات "رؤية 2030" يستنزف كثيرا من إيرادات الدولة في البنية الأساسية لها وتستحوذ شركات أجنبية على معظمها.
* * *
شهدت المملكة العربية السعودية العديد من التغيرات على الصعيد الاجتماعي، وهي تغيرات تخص موروثات العادات والتقاليد، ولكن لها جوانب اقتصادية، بعضها يخص الأفراد والأسر وبعضها يخص ميزانية الدولة.
فمنذ فترة قليلة سُمح للنساء بقيادة السيارات في المملكة العربية السعودية، كما سمح لهن بممارسة بعض الأعمال والوظائف التي كانت محظورة عليهن من قبل، كبائعات في محلات التجزئة.
وأخيرًا، تم السماح للنساء السعوديات البالغات أكثر من 21 عامًا بالسفر خارج البلاد بمفردهن دون الحاجة لمحرم، وكذلك تم رفع سن التقاعد للنساء السعوديات إلى 60 عامًا بعدما كانت سن التقاعد لهن عند 55 عامًا، وبذلك تتساوى النساء والرجال بسن التقاعد.
ولم تكن التغيرات الاجتماعية لتتم دون أن تصاحبها كذلك متغيرات اقتصادية، يشهدها الوضع المالي السعودي، من تراجع ملحوظ منذ أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية بمنتصف عام 2014، ولا تزال السوق الدولية تعاني الأزمة، وتفرز تداعياتها السلبية على الأوضاع المالية بالدول النفطية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
كان قرار السماح للنساء بقيادة السيارات، مقرونًا بما اتُخذ من قرارات اقتصادية، أدت إلى تأثر دخول شريحة كبيرة سلبيًا من الطبقة المتوسطة في السعودية، فالرفع الجزئي للدعم عن كثير من الخدمات الحكومية من وقود وكهرباء ومياه، وكذلك الاتجاه لتقليص العمالة في القطاع الحكومي، أثرا على دخول الطبقة المتوسطة، والتي يتوقع لها أن تكون عاجزة عن تدبير أجر سائق خاص، ولذلك ستكون قيادة المرأة للسيارة مدفوعة بالتراجع في دخل الأسرة.
ولا أدل على تأثر الوضع الاقتصادي للأسر السعودية منذ بدء الإجراءات التقشفية، من وصول عدد المستفيدين من برنامج "حساب المواطن" إلى ما يزيد عن 63% من المواطنين السعوديين، وهذا البرنامج مخصص لدعم الأسر المتضررة من الإجراءات التقشفية، وتحصل الأسرة السعودية المستحقة لكامل الدعم، على ألف ريال سعودي شهريًا (266 دولارا).
بل وفي خطوة متقدمة سيسمح للسعوديات بالعمل كسائقات أجرة، على التاكسي أو لدى العائلات، وهو أمر آخر يعبر عن مساهمة المرأة السعودية في العمل على زيادة دخل الأسرة.
وقد لا تظهر الدلالات الخاصة بمشاركة النساء السعوديات في هذه المهنة في الأجل القصير، أي خلال فترة من (1-3) أعوام، ولكنها ستكون ظاهرة بوضوح بعد 3 سنوات.
وقد تتطور الظاهرة للدخول في بزنس الشركات، حيث تتخصص بعض الشركات في تقديم خدمة السائقات السعوديات، سواء للعائلات، أو للمؤسسات الخدمية والاقتصادية، أو لطالبي الخدمة، عبر التطبيقات الخدمية الحديثة مثل أوبر وغيرها.
على الرغم من أن هذه المهن، كان يشغلها الأجانب بشكل رئيس بسبب ضعف الراتب الممنوح من قبل أصحاب الشركات، إلا أن السعودية وفي إطار ما يعرف بتوطين الوظائف سمحت للمرأة بالعمل في هذا النشاط.
وذلك بغية تقليل معدل البطالة بين النساء السعوديات، حيث تشير بيانات الهيئة العامة للإحصاء بالسعودية إلى أن معدل البطالة بين الإناث السعوديات يقدر بنحو 32.5% بنهاية الربع الأخير من عام 2018.
وثمة آثار اقتصادية لهذا القرار، منها توسيع قاعدة العاملات السعوديات، والأمر الثاني الاستغناء عن العمالة الأجنبية التي تساهم في زيادة التحويلات المالية للخارج.
(أظهرت بيانات مؤسسة النقد العربي السعودية، تراجع تحويلات الأجانب خلال الشهور الـ 4 الأولى من عام 2019 بنحو 5%، مقارنة بنفس الفترة من عام 2018) وفي نفس الوقت العمل على زيادة دخل الأسر السعودية، لتواجه ارتفاع تكاليف المعيشة في ظل الإجراءات التقشفية الاقتصادية التي بدأت مع عام 2015.
على الرغم من أن السوق السعودي يعاني من نقص في اليد العاملة، وأن الأجانب يمثلون نحو ما يزيد عن 80% من سوق العمل، إلا أن القرار الأخير الذي يسمح للنساء السعوديات بالسفر بعد سن الـ 21 عامًا، سوف يفتح أبوابًا كانت مغلقة لهؤلاء النساء، منها السعي للعمل والتعليم والإقامة خارج المملكة العربية السعودية.
فهناك فئة من بين هؤلاء النساء يفكرن في التعليم بمجالات كثيرة قد تكون أفضل خارج السعودية، وهو ما سيزيد من التحويلات الخارجية للسعوديات خلال الفترة القادمة، وقد تكون وجهة هؤلاء الفتيات في سن التعليم أوروبا أو بعض بلدان المنطقة العربية مثل مصر أو دولا غير عربية مثل تركيا.
وقد تتجه بعضهن إلى الاستثمار في الأسواق الخارجية كصاحبات مشروعات صغيرة، أو متوسطة، وقد تمثل الإقامة خارج المملكة العربية السعودية رغبة لدى عدد ليس بالقليل منهن، على الرغم من الأجواء الانفتاحية التي شهدتها المملكة خلال الفترة الماضية. ومن شأن هذه السلوكيات أن تدفع بجزء لا يستهان به من ثروات السعوديات إلى الخارج، وبخاصة أن أسواق بعض دول المنطقة تتمتع بمزايا غير متوفرة في السوق السعودية، مثل كبر حجم السوق، كما هو الحال في تركيا ومصر والمغرب.
لا شك أن قرار رفع سن التقاعد يمكن قراءته في إطار زيادة مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي بالسعودية، ولكن الإجراءات الأخرى التي تشجع عليها الحكومة تستبعد هذه القراءة، فالحكومة تشجع بشكل عام على التقاعد المبكر للعاملين لديها.
ومن هنا فالقراءة الصحيحة لهذا القرار، هي التخفف من الأعباء على كاهل الميزانية العامة للدولة، فالمحالات إلى التقاعد يحصلن على مكافاة نهاية الخدمة، ثم رواتب التقاعد، بينما بقاؤهن في الخدمة، يؤجل دفع مكافآت نهاية الخدمة لخمس سنوات قادمة.
وحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء السعودية، فإن عدد العاملات في القطاع العام السعودي بنهاية عام 2018، بلغ 528 ألف عاملة، ويمثلن نسبة 37.5% من إجمالي السعوديين العاملين بالقطاع العام، كما يمثلن نسبة 35.5% من إجمالي العاملين بالقطاع العام من السعوديين وغير السعوديين.
ومن هنا قد يكون القرار دافعا بشكل أكبر للنساء للاتجاه للتقاعد المبكر، وليس زيادة المساهمة في النشاط الاقتصادي، كما يحاول أن يقرأه البعض.
الساحة السعودية تشهد العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية، التي بلا شك لها تداعياتها الاقتصادية بطبيعة الحال، ولكن يظل النظام السعودي ممسكا بمفاصل هذا الاقتصاد، وهو ما يظهر بوضوح من خلال حجم الإنفاق الكبير من قبل الحكومة السعودية على مشروعات رؤية 2030، والتي تنصب في معظمها الآن في مشروعات كبرى، تستنزف جزءا لا يستهان به من الإيرادات العامة للدولة السعودية في إقامة البنية الأساسية لهذه المشروعات، واستحواذ الشركات الأجنبية على معظمها.
ويبقى الحديث عن خروج النساء للعمل، أو مساهمتهن في النشاط الاقتصادي، سواء كن عازبات أو متزوجات، هو نوع من المشاركة للرجل في المعاناة الاقتصادية والاجتماعية خلال الفترة القادمة.
وليس دلالة على تحسن في الأوضاع المالية والاقتصادية للنساء في السعودية، لطالما غابت المحاسبة على الصعيد العام، ولطالما غاب دور المؤسسات الرقابية، أو منظمات العمال التي تحافظ على حقوق العمال (الرجل والنساء) من حيث الأجر العادل، والعمل اللائق.
فمن غير الإنصاف أن تترك المرأة السعودية لسوق العمل دون أن تكون لديها حماية اجتماعية تمكنها من الحصول على أجر لائق، أو حقها في التأمين الصحي والاجتماعي، فضلًا عن هذا التمايز القائم بين فرص العمل لصالح العاملات في القطاع العام.