ثمة مجموعة من التساؤلات تطرح نفسها في ضوء الواقع السعودي إقليميا ودوليا، فرغم الثروة الكبيرة التي راكمتها العوائد النفطية منذ منتصف السبعينيات، وبخاصة تلك التي تدفقت في الفورة النفطية الثالثة خلال الفترة 2003-2013؛ لم تظهر السعودية كدولة متقدمة ضمن التصنيفات الدولية، حيث تعتمد في ناتجها المحلي على المصادر الريعية، وتقل مساهمة القيمة المضافة في نشاطها الاقتصادي.
كما لم يساعدها وضعها المالي المتميز في صناعة واقع سياسي على الصعيدين العالمي والإقليمي، فما اكتسبته السعودية من وضع معنوي على الصعيد العالمي والإقليمي خلال الفترة الماضية، كان نتاج القوة الناعمة لكونها بلد الحرمين الشريفين.
وقد فرضت تجارب دول أخرى نفسها لتكشف مدى تراجع التجربة السعودية، على الرغم مما توفر لها من إمكانيات مالية كبيرة، فالدول الصاعدة مثلًا، استطاعت أن تؤسس لكيان جديد يضم مجموعة "البريكس" يبحث عن مصالحها السياسية والاقتصادية، وجعلت من نفسها قوى مناظرة لأميركا والغرب، وتم طرح العديد من الملفات الخاصة بضرورة إعادة رسم النظام الاقتصادي العالمي، بما فيها البحث عن عملة جديدة للتسويات التجارية والاقتصادية غير الدولار، وإعادة النظر في دور المؤسسات المالية الدولية في الاقتصاد العالمي، وإنهاء سيطرت أميركا والغرب على هذه المؤسسات.
كما برزت تركيا على الصعيد الإقليمي بعد نجاح تجربتها الاقتصادية، وظهرت ملامح مشروعها الإقليمي عبر التسويق التنموي للنموذج التركي وتوظيف أدواتها الناعمة عبر المنح الدراسية لبلدان العالم العربي والإسلامي، وكذلك المساعدات التنموية التي تقدمها لدول العالمين العربي والإسلامي، فضلا عن دورها السياسي في المنطقة سواء فيما يتعلق بدول الجوار أو باقي دول المنطقة.
وقد أدى كل ذلك إلى تحسين ملموس في الصورة الذهنية لدى مواطني الدول العربية والإسلامية عن تركيا.
"
إن كان من دور للمال السعودي على الصعيد السياسي فهو دور سلبي من أجل كسب تأييد أميركي أو غربي أو روسي للموقف السعودي في إطار القضايا والملفات الإقليمية، وهو ما جعل من السعودية ثاني مستورد للسلاح على مستوى العالم في 2017
"
لكن التجربة السعودية تشهد تراجعا في أدائها تجاه التوظيف السياسي والاقتصادي لثرواتها المالية، فالعديد من الملفات التي تدخلت فيها السعودية كان مردودها سلبي كما هو الحال في اليمن وسوريا، وكذلك دعم الثورات المضادة بدول الربيع العربي مما خصم كثيرا من رصيد السعودية لدى أبناء دول الربيع العربي والعالم الإسلامي.
وإذا ما نظرنا لحضور السعودية كعضو في مجموعة العشرين، نجد أنها ممثلة لمجرد ملاءتها المالية، ولكن لم نلحظ لها موقفا مؤثرا على مسار القضايا المطروحة عبر اجتماعات المجموعة أو اتخاذ موقف يتبنى القضايا الاقتصادية للدول النامية مثلا، أو على صعيد القضايا الاقتصادية العربية أو الإسلامية، بينما نجد حضورا قويا للصين وغيرها من الدول الصاعدة فيما يتعلق بقضايا حماية التجارة في مواجهة أميركا أو مطالب الدول الصاعدة بإعادة ترتيبات النظام المالي العالمي.
مصدر الثروة الرئيس للسعودية هو الصادرات النفطية، حيث تعد أكبر منتج للنفط على مستوى العالم بحجم إنتاج يصل إلى نحو عشرة ملايين برميل يوميا.
وقد تزعمت قرار منظمة أوبك مؤخرا بخفض سقف الإنتاج، كأحد العوامل التي من الممكن أن تؤدي إلى الحفاظ على مستوى الأسعار من الانهيار وذلك منذ مطلع عام 2016، ولا زالت هذه السياسة سائدة، وتأمل معظم دول أوبك في أن يستمر الأمر لنهاية 2018، حيث أدت هذه السياسة إلى وصول سعر النفط لملامسة سقف سبعين دولارا للبرميل.
وبحسب البيانات الإحصائية لأعداد مختلفة من التقرير الاقتصادي العربي الموحد، فإن صادرات السعودية من النفط الخام بلغت نحو 2.66 تريليون دولار خلال الفترة من 2004-2016، وقد أنعشت هذه العوائد النفطية الاقتصاد السعودي وأوصلت الناتج المحلي الإجمالي إلى قيم غير مسبوقة، فتجاوز الناتج المحلي الإجمالي حاجز 750 مليار دولار في عام 2014، وذلك وفق أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، وإن كان تراجع مع نهاية 2016 إلى 648 مليار دولار.
ولم تكن الثروات النفطية للسعودية في الفترة 2003-2013 هي الأولى من نوعها، لكنها الفورة الثالثة.
وكانت الفورة الأولى في منتصف السبعينيات، حيث أدت عوائد النفط بشكل كبير إلى تحسن البنية الأساسية في المملكة، كما ساعدت على ظهور دور مالي للسعودية في أسواق المال الدولية، وكذلك في الاقتصادات الأوروبية والأميركية.
وظهر ذلك بوضوح بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وكذلك تبعاتها التي استمرت حتى 2015 في أوروبا، حيث توافد رؤساء أميركا وأوروبا إلى العاصمة السعودية وباقي دول الخليج النفطية طلبا للمال الخليجي والسعودي على وجه الخصوص، لتحريك الركود داخل اقتصادات أميركا وأوروبا.
ومن هنا ظهر دور الصندوق السيادي السعودي الذي بلغت أرصدته قبل الأزمة النفطية وتبعات الأزمة الخليجية لنحو 750 مليار دولار، لكنه لم يلعب دورا مؤثرا في صناعة واقع سياسي للسعودية على الصعيد الدولي أو الإقليمي، كما هو الحال في وضع الصناديق السيادية للصين وروسيا.
فقد أعلنت كل من أميركا والاتحاد الأوروبي أن ثمة دورا سياسيا تمارسه الصناديق السيادية للصين والهند، لذلك تعترض أميركا على بعض الصفقات التجارية والاستثمارية التي تستهدف الاستحواذ على شركات أميركية مخافة أن ينال ذلك من أمنها القومي.
وإن كان من دور للمال السعودي على الصعيد السياسي فهو دور سلبي، من أجل كسب تأييد أميركي أو غربي أو روسي تجاه الموقف السعودي في إطار القضايا والملفات الإقليمية، وهو ما جعل من السعودية ثاني مستورد للسلاح على مستوى العالم في 2017.
ومن أبرز تجارب التوظيف السياسي السلبي للمال السعودي، ما حدث في صفقة الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال مايو/أيار 2017، حيث حصل الرئيس الأميركي على قرابة خمسمئة مليار دولار عبر مجموعة من الاتفاقيات مع الحكومة السعودية.
ومن قبل صفقة ترمب كان دعم السعودية للانقلاب العسكري بمصر في يوليو/تموز 2013، من خلال القروض والودائع لقادة الانقلاب العسكري، فضلا عن إمدادهم بالوقود عبر تسهيلات ائتمانية ميسرة لفترة تمتد في المتوسط نحو خمس سنوات.
وكان الدور السعودي واضحا في اليمن قبل استيلاء الحوثيين على الحكم بداية عام 2015، حيث مدت السعودية حكومة عبد ربه هادي منصور بالدعم المادي المعلن والخفي، والذي تم التصرف فيه بطرق غير رسمية، وأدت إلى إفساد الحياة السياسية هناك، على الرغم من علم السعودية بذلك.
والمعنيون بالشأن اليمني يرصدون دور السعودية على مدار عقود قبل الثورة اليمنية، بدعم نظام علي عبد الله صالح على الرغم من كونه مستبدا وفاسدا، فالشعب اليمني يحصل على فتات الدعم السعودي بينما يذهب الحجم الأكبر منه لتمكين النظم الدكتاتوري.
كما أُعلن في ماليزيا منذ فترة عن دور السعودية في الانتخابات البرلمانية هناك، وهو ما رصدته الأجهزة الرقابية بكونه ممارسات فساد لرئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق الذي حولت له الحكومة السعودية نحو 650 مليون دولار على حسابه الشخصي.
ثمة ملاحظات كثيرة حول المشروعات التي تبنتها السعودية مؤخرا مثل "نيوم" ومحطة الطاقة الشمسية ومشروعات إنتاج التكنولوجيا، منها ما يتعلق بضعف البنى البشرية للسعودية، وقصورها عن إمكانية التماهي مع هذه المشروعات التي لم يظهر لها بعد دراسات جدوى أو عوائد حقيقية يمكن اعتبارها مسارات للتغير في بنية الاقتصاد السعودي.
وهذا ما يمكن اعتباره إهدارا للثروة أكثر منه استثمارا، فبفرض خروج هذه المشروعات إلى أرض الواقع، فإن المستفيد منها على وجه الحقيقة هم الأجانب وليسوا أبناء المملكة العربية السعودية، إذ غالبية هذه المشروعات سوف يتم التعامل معها وفق إستراتيجية قديمة وهي "تسليم مفتاح"، أي أن الجهد البشري المعرفي للشعب السعودي سيكون محدودا، وثمة غياب لدور الجامعات ومراكز البحوث السعودية، فضلا عن استقدام الكوادر البشرية اللازمة لإنشاء وتشغيل هذه المشروعات.
وبالعودة إلى تجارب الاستثمار الخارجي للسعودية على مدار العقود الماضية، نجد أن ثروات السعودية منيت بخسائر ليست قليلة عبر أزمات أسواق المال أو نتيجة للسياسات المالية والنقدية لأميركا والغرب، حيث يتم تخفيض قيمة العملات أو تخفيض أسعار الفائدة.
وأقرب دليل على ذلك، التقديرات التي ذهبت إلى أن خسائر الدول الخليجية في أزمة 2008 بلغت نحو نصف تريليون دولار.
لقد كان بإمكان السعودية أن تحتل مرتبة متقدمة في قيادة مشروع التكامل الاقتصادي العربي أو توطيد عرى العلاقات الاقتصادية بين بلدان العالم الإسلامي، لكن غابت الإرادة السياسية والإدارة الاقتصادية التي تصنع القوى الناعمة في تلك الدول، أو تدعم مشروعات التكامل الاقتصادي الذي يمثل نقطة انطلاق لمشروع سياسي يجنب المنطقة ما آلت إليه من ضعف وهوان.
وخريطة إدارة المال السعودي -في ضوء عدم سعيها لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية- تطرح سؤالا مهما، حول من يدير تلك الثروة؟ هل ثمة ضغوط غير معلنة يمارسها الغرب وأميركا لتوجيه استثمارات السعودية الخارجية أو تحديد خريطة مساعداتها التنموية في الدول العربية والإسلامية.
الحسابات المنطقية لكون السعودية أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم على مدار العقود الماضية، تتنافى مع وقوع نسبة 57% من مواطنيها تحت خط الفقر ويستحقون الدعم
"
في 11 مارس/آذار 2018 أشارت وسائل الإعلام السعودية إلى اعتماد الدفعة الرابعة لحساب المواطن، بنحو 2.2 مليار ريال (نحو 550 مليون دولار)، وهو حساب أنشئ حديثا لدعم المواطنين الذين يعانون من الإجراءات الاقتصادية الأخيرة التي سميت بالإجراءات التقشفية. ويستفيد من هذا البرنامج بحسب الأرقام الحكومية السعودية 11.9 مليون سعودي، أي نحو 57% من المواطنين.
فالحسابات المنطقية لكون السعودية أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم على مدار العقود الماضية، تتنافى مع وقوع نسبة 57% من مواطنيها تحت خط الفقر، ويستحقون الدعم. فضلا عن أن السعودية -صاحبة ثالث أكبر صندوق سيادي بعد النرويج وأبو ظبي- لم تفلح من خلال تلك الثروة في تخفيف حدة البطالة التي تناهز معدل 12.8% بين المواطنين السعوديين في 2017، رغم الحديث عن توطين الوظائف، أو ترحيل نحو نصف مليون عامل أجنبي.
المال في حوزة الدول يختلف في وظيفته عما هو في حوزة الأفراد، فالدول من حولنا ترسم خططها السياسية والاقتصادية في ضوء ما تحصل عليه أو تدفعه من مال، والعبرة ليست بالدخول في مشروعات كبرى من حيث الاسم أو الحجم، ولكن العبرة بالعائد من تلك المشروعات وما يعود على الدول من تقوية موقفها على الصعيد الإقليمي والدولي، وقبل ذلك وجود عائد حقيقي على مواطنيها.