تقرير بعثة صندوق النقد الدولي عن أداء اقتصاد المملكة العربية السعودية، والمنشور على موقع الصندوق في 17 أغسطس/آب الحالي، يظهر أن مرحلة الاستقرار والتقدم في كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية قد انتهت، ويتوقع التقرير حدوث تراجع في كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية على مدار عامي 2015 و2016.
وهذا يعني أن الأوضاع الاقتصادية بالسعودية سوف تشهد حالة من الانكماش والتأثر السلبي على مختلف الأنشطة الاقتصادية، نظرًا للدور الذي يلعبه الإنفاق الحكومي في تنشيط الاقتصاد، واعتماد القطاع الخاص في غالبية أنشطته على هذا الإنفاق. ويكفي أن صندوق النقد يتوقع أن يصل عجز الموازنة السعودية بعام 2015 إلى 19.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد ربط الصندوق توقعه بتراجع مؤشرات الاقتصاد فقط بانخفاض أسعار النفط في السوق الدولية، والذي بدأ منذ منتصف 2014.
وتضمن تقريره الإشارة إلى تراجع معظم المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد السعودي في 2015 و2016، والتي نتناول بعضها بالتحليل فيما يلي:
الحديث عن الناتج المحلي في إطار رقمي لا يعكس حقيقة أداء الاقتصاد القومي لدولة ما، لكن الربط بين قيمة الناتج ومكوناته يدلل على قوة أو ضعف هذا الاقتصاد، كذلك إن كان يعتمد على قاعدة إنتاجية، أم أنشطة ريعية، وهي ملاحظة لم يتطرق إليها تقرير بعثة الصندوق.
وحتى في إطار هذا التقييم الرقمي، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي للسعودية يتجه للتراجع في العام 2015 ليصل إلى 644 مليار دولار، أي أن التراجع بين أداء الناتج في العامين 2014 و2015 يصل إلى نحو 102 مليار دولار، وبنسبة تصل إلى 13.6%.
"
في ضوء توقعات تقرير صندوق النقد الدولي بشأن الاقتصاد السعودي من السهولة بمكان أن نستنتج أن أزمة انهيار أسعار النفط سوف تستمر إلى نهاية العام 2016
"
لكن ما يثير التخوف في تقديرات الصندوق أنه يتوقع أن يستمر تراجع معدل نمو الناتج حتى العام 2016. فبعد معدل نمو وصل إلى 3.5% في العام 2014، يتوقع الصندوق أن يتراجع العام الحالي إلى 2.8%، ثم إلى 2.4% في العام المقبل.
وفي ضوء توقعات تقرير الصندوق من السهولة بمكان أن نستنتج أن أزمة انهيار أسعار النفط سوف تستمر إلى نهاية العام 2016، خاصة أن لغة التقرير لم تشر إلى أن توقعه مبني على سيناريو أو احتمال، بل لغة تفرض نتائج.
في ظل اقتصاد يسيطر النفط على أكثر من 90% من صادراته، من الطبيعي أن يشهد تراجعا حادا في قيمة الصادرات مع أزمة انهيار أسعار النفط التي يشهدها العالم منذ منتصف العام الماضي. فقد بيّن تقرير الصندوق أن قيمة صادرات السعودية تراجعت قبل عام لتصل إلى 343 مليار دولار، بعد أن كانت 376 مليار دولار في العام 2013، أي أن قيمة التراجع بين العامين 2013 و2014 بلغت 33 مليار دولار.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محدودية التراجع في قيمة الصادرات السعودية في العام 2014 تعود إلى أن أزمة انهيار أسعار النفط حدثت بعد منتصف العام وعلى مراحل وليس مرة واحدة، بينما استفادت من ارتفاع الأسعارعند سقف 105 دولارات للبرميل خلال النصف الأول من العام نفسه.
ويتوقع التقرير أن تشهد الصادرات السعودية مزيدا من التراجع، لتصل إلى 236 مليار دولار بنهاية 2015، وبذلك تكون قيمة التراجع قد بلغت 107 مليارات دولار بين العامين 2014 و2015، وبنسبة تصل إلى 31%.
تسجل الإحصاءات الواردة في تقرير بعثة صندوق النقد الدولي والمأخوذة من مصادر سعودية رسمية، أن الحساب الجاري في نهاية العام 2014 سجل فائضا بلغ 81 مليار دولار، بتراجع يصل إلى 54 مليار دولار، مقارنة بفائض عام 2013 وصل إلى 135 مليار دولار، وهذا ملمح سلبي في أداء الحساب الجاري السعودي رغم تحقيقه فائضا بنهاية العام الماضي، وذلك بسبب أزمة انهيار أسعار النفط.
أما ما يلفت الانتباه فهو أن تقدير صندوق النقد توقع أن يتحول الفائض في الحساب الجاري السعودي في العام 2014 إلى عجز في العام 2015 يصل إلى (سالب 5.8 مليارات دولار).
ومن المعلوم أن الحساب الجاري يضم نتائج أداء كل من الميزان التجاري (الصادرات والواردات) وميزان التعاملات الرأسمالية، وميزان التعاملات الخدمية، إلا أن أبرز التأثيرات السلبية على الحساب الجاري السعودي هي تراجع الصادرات، وبقاء الواردات السلعية كما هي أو حدوث تراجع طفيف لا يذكر.
فبيانات تقرير الصندوق تشير إلى أن الواردات السلعية السعودية في العام 2014 بلغت 155 مليار دولار، بزيادة قدرها نحو ملياري دولار عن العام 2013، ويتوقع الصندوق أن تصل الواردات السعودية إلى 152 مليار دولار بنهاية العام 2015، بتراجع قدره ثلاثة مليارات دولار عن العام 2014، ونسبة التراجع في الواردات بين العامين 2014 و2015، تصل إلى 1.9% فقط.
"
بيانات تقرير صندوق النقد تشير إلى أن الواردات السلعية السعودية في العام 2014 بلغت 155 مليار دولار، بزيادة قدرها نحو ملياري دولار مقارنة بالعام 2013
"
ويرجع ضعف مرونة الواردات السعودية لطبيعة هيكلها الذي يظهر تبعية الاقتصاد السعودي للخارج بشكل كبير، فبيانات مؤسسة النقد السعودي تبين أن الأجهزة والمعدات الكهربائية المستوردة تمثل نسبة 26.4% من إجمالي الواردات، ومعدات النقل تمثل نسبة 17.7%، وواردات المواد الغذائية تحتل المرتبة الثالثة بنسبة 13.9%، والمعادن العادية بنسبة 13.8%، والمنتجات الكيميائية نسبة 13.6%.
بلغت احتياطيات النقد الأجنبي السعودي في السنوات الماضية معدلات كبيرة لتصل إلى 716 مليار دولار في 2013، ولتزيد بمعدل طفيف بنهاية 2014 لتصل إلى 724 مليار دولار، وبزيادة قدرها ثمانية مليارات دولار بين العامين.
إلا أن توقعات صندوق النقد تشير إلى إمكانية تراجع هذا الاحتياطي بنهاية العام الحالي ليصل إلى 659 مليار دولار، وبذلك تكون قيمة التراجع في احتياطي النقد قد بلغت 65 مليار دولار بين العام 2014 و2015، وبنسبة قدرها نحو 9%.
ومن وجهة نظرنا فإن احتياطي النقد السعودي سوف يشهد المزيد من التراجع خلال المرحلة المقبلة وبمعدلات أكبر من توقعات صندوق النقد الدولي.
وفي ظل اتباع الحكومة السعودية سياسة السحب من احتياطيات النقد الأجنبي لتغطية عجز الموازنة، بسبب تراجع الإيرادات العامة في ظل انهيار أسعار النفط، وجه بعض رجال الأعمال انتقادات لهذه السياسة، ووصفوها بالعاجزة تجاه التوظيف السليم لاحتياطيات النقد على مدار السنوات الماضية، في وقت كان ينتظر أن تسد عوائد استثمار هذه المبالغ عجز الموازنة في الظروف الحالية التي تمر بها المملكة.