شعائر الحج من العبادات ذات الأثر المالي الملموس، والمتعدي مستوى الحجاج أو مجتمعاتهم، أو داخل السعودية. وفي الأوضاع الطبيعية قبل جائحة كورونا كان أكثر من مليوني حاج يتوجّهون كل عام لأداء فريضة الحج.
وإن كانت أعداد عامي 2020 و2021 تعد استثناءً بسبب انتشار الوباء، إذ تقلّص عدد الحجاج بشكل كبير خلال هذين العامين، إلا أنه في موسم الحج الحالي لعام 1443 هجري، يتوجّه نحو مليون حاج فقط لأداء الحج، بحسب إعلان وزارة الحج والعمرة السعودية في إبريل 2022. وهذا عدد قليل مقارنة بسنوات ماضية، فإحصاءات 2019 تشير إلى أن عدد الحجاج الإجمالي بلغ في هذا العام 2.4 مليون حاج، منهم 1.8 مليون حاج من خارج المملكة، ونحو 600 ألف حاج من داخل الأراضي السعودية.
ثمة مجموعة من الآثار المالية للحج، منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر، سواء بالنسبة لشعيرة الحج، أو مؤدّيها من الحجاج، أو للأقطار التي أتوا منها، أو بالنسبة للسعودية، التي شرّفها الله عز وجل بوجود البيت الحرام وغيره من الأماكن المقدسة فيها. وتعد المملكة من أكبر المستفيدين مالياً من موسم الحج، فالإحصاءات السعودية تبين أن قيمة إنفاق الحجاج عام 2019 بلغت 26.9 مليار دولار، بزيادة نسبتها 8% عما أُنفق في عام 2018، إذ بلغت القيمة في ذلك العام 24.9 مليار دولار.
بطبيعة الحال في عام 1443 هجري، والتي حُدد فيها عدد الحجاج بنحو 50% عما كان عليه الحال عام 1440 هجري، سيكون حجم الإنفاق أقل مما كان عليه قبل جائحة كورونا، ولكن لا بد من أن نأخذ في الاعتبار ارتفاع الأسعار الحالي للعديد من السلع والخدمات، التي يحصل عليها الحجاج داخل المملكة، وهو ما سيجعل قيمة الإنفاق مختلفة في حالة مقارنتها بعام 1440 هجري.
وثمة حالة من الانتعاش سوف تشهدها مرافق خدمة الحجاج في السعودية، من الإسكان، والنقل بكافة أنواعه، والمطاعم وأماكن بيع الهدايا، والبنوك.
وفي غير المملكة، أُعلنت الطوارئ في العديد من المؤسسات التي تقوم على تقديم الخدمات للحجاج، بدءاً من السعي للحصول على تأشيرات السفر، وحجز تذاكر السفر، وشراء مستلزمات السفر للحج، وتدبير نفقات الرحلة خلال الحج، ثم هدايا العودة للأهل والأصدقاء، بل يمتد الأمر لما بعد العودة من الحج في المناطق الريفية وغيرها من إقامة الولائم، وهو أمر له بعده المالي والاجتماعي الملموس.
ولعل من أكبر المستفيدين من موسم حج هذا العام شركات الطيران في الدول الإسلامية، والتي ستشارك في نقل الحجاج، فهناك مليون حاج، ينتقل معظمهم عبر الطيران، على الرغم من ارتفاع أسعار تذاكر السفر جوّاً، سواء كان هذا الارتفاع بسبب زيادة معدلات التضخم، أو حرص شركات الطيران على أن تعوض خسائرها التي مُنيت بها خلال جائحة أزمة كورونا.
شاء الله عزّ وجل أن يستفيد الحجاج من رحلة الحج، من خلال ممارسة بعض الأعمال الدنيوية من تجارة وغيرها، يمكن أن تدر عليهم عوائد مالية، وهو ما يفرض على المسلمين الاستفادة من هذه الفرصة، التي تجمع مواطنين من نحو 57 دولة، من تخصصات واهتمامات مختلفة، يمكن توظيف هذا الملتقى بما ينفع اقتصاديات الدول الإسلامية.
فيمكن أن تنظم مؤتمرات متخصصة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية كافة، ليتحقق مفهوم الأمة الواحدة بشكل عملي، فيزيح هذه الضبابية عن إمكانات الدول الإسلامية، ويعرض الجوانب المتعلقة بالإمكانات الطبيعة والبشرية والمالية، ليحدث نوع من التعاون، ويحقق مزايا تجارية وصناعة وخدمية بشكل كبير.
فعلى سبيل المثال، يحتاج الحجاج في الوضع الطبيعي لنحو مليوني رأس للهدي أو الأضاحي داخل السعودية، ويتم استيراد معظمها من الخارج، وعلى رأس تلك الأماكن التي يتم الاستيراد منها أستراليا ودول أخرى، في الوقت الذي تعاني فيه دول إسلامية فقيرة من عدم قدرتها على تسويق ما لديها من المواشي الصالحة لتأدية شعيرة الهدي أو الأضحية، مثل السودان والصومال وغيرهما، فلماذا لا يتم ترتيب الأمر بحيث يحقق ميزة للدول الأفريقية المسلمة، لتستفيد من تصريف ما لديها من مواشٍ، وفي نفس الوقت يتحسن وضعها الاقتصادي والاجتماعي.
لا يتوقف أمر الاستفادة من التعاون بين الدول الإسلامية على الهدي أو أضاحي الحجاج، بل هناك ملايين المسلمين من غير الحجاج، الذين يقومون بأداء شعيرة الأضحية في بلدانهم، ويريدون أن تكون الأضاحي متوفرة بأسعار معقولة، ومستوفية للشروط الشرعية. وبلا شك في أن التعاون بين الدول الإسلامية في هذا المجال أيضاً يعمل على فتح فرص الاستثمار، وينشط التجارة البينية للدول الإسلامية، بدلاً من الاستيراد من دول أخرى غير إسلامية.
وفي جانب آخر، يعود الحجاج إلى بلدانهم محملين بهدايا بمبالغ طائلة، ومعظم تلك الهدايا تصنع في الصين وفي دول غير إسلامية أخرى، وهي في مجملها هدايا تأتي في إطار الصناعة التقليدية، وحتى لو كانت من الأجهزة الإلكترونية وغيرها، فلماذا لا يتم التنسيق لإنتاج تلك الهدايا داخل الدول الإسلامية، عبر التنسيق بين الموارد البشرية والمالية لتلك الدول، وسوف يمتد الأثر الإيجابي لهذا التعاون لما بعد الحج.
غالبية الدول الإسلامية فقيرة في إنتاج التكنولوجيا، وبخاصة ذلك الجانب المعني بإنزال التكنولوجيا في شكل منتجات لها أبعادها الاقتصادية، ويمكن إنتاجها بما يتناسب مع متطلبات الأسواق، ويحتاج الأمر إلى أن يكون ضمن الفعاليات التي يجب أن يشملها موسم الحج، في الإطار التنظيمي، أن تكون هناك منتديات لتقديم براءات الاختراع، وعرض الأفكار ذات البعد التكنولوجي، لتتلاءم مع احتياجات دول العالم الإسلامي، وتكون مجال ومطلب للتمويل في الدول ذات الوفورات المالية، بدلاً من أن تذهب في مجاهيل أسواق المال أو المضاربة على العقارات وغيرها.
إن سبل الاستفادة من الحج متعددة وممكنة، ولكنها تحتاج إلى عمليات تخطيط وتنظيم، بحيث تؤدي الغرض منها، ليكون الحج مناسبة تدفع للتعاون الإسلامي بكافة صوره، وليس فقط في الجانب الاقتصادي، ويحتم هذا إعادة النظر في عدم قصر تنظيم الحج على أداء الشعائر فقط، ولكن يمتد الأمر لكافة الجوانب التي تفيد الأمة، من هذا التجمع الضخم.
ومن أهم مزايا شعيرة الحج أنها مستمرة، ما لم تكن هناك عوائق طبيعية، وبالتالي تضمن استمرارية ما يستهدف من مشروعات مرتبطة بها، على مستوى الأمة، وهو سوق دائم ورائج، فضلاً عن أنه يضمن مسوقين لكل من يحاول الاستفادة من موسم الحج، حيث ينقل الحجاج كل ما شاهدوه إلى بلدانهم، فضلاً عن أنه في حالة تحويل الحج إلى هذه الحالة الإيجابية، فسيكون جاذباً لكل راغب في الاستثمار في الدنيا والآخرة.
نتمنى أن ينظر إلى هذه المجموعة من الأفكار، ونقلها إلى عالم الواقع، ولا مانع أن تبدأ بشكل تدريجي، ليمكن تفعيلها بشكل جيد. فالحج إحدى الفرص التي يمكن الاستفادة منها، على الصعيد الزمني، فخلال عام يمكن تنظيم عمل جيد.