في ظل حراك شعبي إيجابي تشهده الجزائر منذ شهور مضت، يتطلب الأمر أن يصاحب الإصلاح السياسي المرتقب، إصلاحًا اقتصاديًا يغير وجه التنمية بالجزائر..
لقد كانت العشرية السوداء شماعة علقت عليها الحكومات المتعاقبة فشلها في تحقيق التنمية على مدار عقدين بعد تلك العشرية..
فقد ارتفعت معدلات البطالة حتى وصلت إلى 11.2% في 2018، وفق بيانات المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، وكذلك زادت معدلات الفساد، إذ تحتل الجزائر المرتبة 105 من بين 180 دولة شملهم مؤشر منظمة الشفافية الدولية لعام 2018، وحصلت الجزائر على 35 درجة من إجمالي دراجات مؤشر الشفافية البالغة 100 درجة.
وظلت الجزائر بلدًا نفطيًا، يعيش تحت وطأة تقلبات سعر النفط في السوق الدولية، ولعل البصمة السلبية التي تركتها أزمة انهيار أسعار النفط منذ منتصف 2014
ما زالت قائمة، وقد تجلى أثرها السلبي في تراجع قيمة احتياطي النقد الأجنبي للبلاد إلى 82.6 مليار دولار في نهاية 2018، بعد أن كانت 201 مليار دولار في نهاية 2014، حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
إن ما نشهده في مسيرة الحراك الشعبي بالجزائر، حري بأن نرصد أداءه الإيجابي حتى الآن، من حيث حرص الجزائريين على عدم الوقوع في أخطاء تجارب دول الربيع العربي الأخرى، سواء التي انتهت بعودة ممثلي حكومات ما قبل الثورات مثل مصر وتونس، أو تجارب الصراعات المسلحة في ليبيا وسوريا.
ويتطلب دخول الجزائر في عشريات بيضاء من التنمية الشاملة والمستدامة، أن تتبنى الجزائر مجموعة من الخطوات المهمة، والتي لا تسمح لمخططي الثورات المضادة بتنفيذ أجندتهم في الجزائر عبر المجال الاقتصادي، وهذه الخطوات هي:
عبر الفترات الإنتقالية استطاعت الثورات المضادة أن تجعل من المطلب الاقتصادي ألغام تنفجر في وجه أصحاب الثورات الحقيقيين، كما حدث في مصر وتونس، من الإسراع في تبديد احتياطي النقد الأجنبي، والدخول في اتفاقيات القروض الخارجية والمحلية، والحرص على بقاء المسؤولين الفاسدين في مواقع حساسة، مثل البنك المركزي وباقي مكونات الجهاز المصرفي، ومصلحة الجمارك والضرائب، وكذلك توظيف رجال الأعمال الفاسدين في تهريب أموالهم للخارج، أو توظيف بعض القيادات العمالية في رفع سقف مطالب العمال والموظفين لإرهاق الموازنة العامة.
ولذلك مطلوب تقصير الفترة الانتقالية قدر المستطاع، وعدم السماح للثورة المضادة من تنفيذ ملامح أجندتها في المجال الاقتصادي التي أشرنا إليها، ولذلك من الضروري، تطهير المؤسسات الاقتصادية والإدارية من الفاسدين في أسرع وقت –بإيقافهم عن العمل لحين التحقيق معهم ومعاقبة الفاسدين منهم- وتبني منهج إصلاحي يراعي التدرج وبما يتوائم مع الإمكانات المتاحة، وتقديم برنامج تنموي، يعمل على بناء الإنسان، والتخفيف من التبعية الاقتصادية للخارج.
للأسف منذ أكثر من ثلاث سنوات، وصندوق النقد يقدم أجندة فاسدة للاقتصاد الجزائري، شأن باقي دول المنطقة، من أمثلة ضرورة التخلص من المؤسسات العامة، وتخفيض العمالة بالحكومة والقطاع العام، وكذلك التركيز على تحرير سعر الصرف وسعر الفائدة.
ولا مانع من الدخول في منظومة إصلاح هذه المؤشرات، ولكن من خلال أجندة وطنية، ففي الوقت الذي تسمح فيه الحكومة المنتظرة والممثلة للثورة والحراك بالجزائر، للقطاع الخاص بالتوسع وممارسة نشاط أكبر في المجال الاقتصادي، لا يعني ذلك بيع القطاع العام، ولكن مطلوب إصلاحه، ليكون منافسًا للقطاع الخاص دون ممارسة احتكار، حتى ينعم المواطن الجزائري بثمار هذه المنافسة، وليكون للقطاع العام دورًا في تحقيق التوازن في السوق ومنع احتكار القطاع الخاص للسلع والخدمات.
سيدلف الصندوق ليكرس لأن يكون الاقتصاد الجزائري اقتصادًا ريعيًا، ليضيف بعض الأنشطة التجارية والخدمية، وبخاصة من قبل الاستثمارات الأجنبية، ولكنه لن يلفت نظر القائمين على الأمر بالجزائر إلى ضرورة أن تتحول الجزائر إلى بلد منتج في قطاعات الصناعة والزراعة وتطوير التعليم ليتواكب مع مطلبات التنمية والصناعة وسوق العمل بشكل رئيس.
وسيحرص الصندوق على أن تدخل الجزائر سوق الدين الخارجي بحجة أن دينها الخارجي في نهاية 2018 لم يتعد 4 مليارات دولار تقريبًا وبما يمثل 2% من إجمالي الناتج المحلي في 2018.
إن التحسن الذي تشهده سوق النفط والغاز الطبيعي خلال عام 2019، يمكّن الجزائر من أن تنفذ برنامجًا للاصلاح الاقتصادي دون الدخول في دوامة القروض، أو الخصخصة غير المحسوبة، أو الاستثمارات الأجنبية التي تأتي لتحتكر أنشطة رئيسة واستراتيجية في الجزائر.
تجارب دول الربيع العربي شهدت ظواهر إيجابية من قبل أبنائها في الداخل والخارج، إذ قُدمت مقترحات قيمة من أبناء الداخل، كما يمثل مناخ الديمقراطية والحرية المنتظر بالجزائر عاملًا مغريًا وجذابًا للمهاجرين الجزائريين، فمنهم من سيأتي ليخدم بعلمه، أو ماله أو علاقاته في الغرب وأمريكا، ولابد أن يُستفاد من جهود هؤلاء وتسكينها في أجندة وطنية للتنمية.
وتجارب إصلاح التعليم ونقل وتوطين التكنولوجيا في دول جنوب شرق آسيا متاحة ومتوفرة، ويمكن الاستفادة منها والبناء عليها في الجزائر، وقد يستغرق إصلاح التعليم بعض الوقت حتى تستطيع الجزائر أن تجني ثماره، ولكن لا بديل عن ذلك، فالاعتماد على استيراد التكنولوجيا في الأجلين المتوسط والطويل، هو قابلية للاستعمار بشكل غير مباشر، وتبديد لموارد الجزائر البشرية والمالية.
ستكون الفرصة سانحة أمام الحراك في الجزائر، بعد أن يتمكن من إدارة البلاد اقتصاديًا وسياسيًا، إذ ستكون أولى مراحل ومتطلبات العمل حصار الفساد والفاسدين، ومحاكمتهم، وسيكون ذلك بابًا واسعًا للاصلاح، وسيوفر الكثير من التكلفة.
وبخاصة أن للجزائر تاريخا سلبيا في ممارسة الفساد. فالفرصة البديلة لما يدفع من أموال، وما يهدر من طاقات وأوقات في أوكار الفساد، حري بأن يتيح فرص عمل جديدة، ويقلل تكلفة الإنتاج والاستثمار، ويخفض التضخم، وقبل هذا وبعده يبني الإنسان والمجتمع على أسس صحيحة.
الجيش مكانه الثكنات، لا يمارس النشاط الاقتصادي المدني، وعلى الدولة أن توفر له احتياجاته للقيام بمهمته الرئيسة وهي الدفاع الخارجي، وإن كان ولابد، فيكون مجال الجيش هو إنتاج التكنواوجيا العسكرية التي تطور إمكانياته في الدفاع والتسليح، ثم تكون المرحلة التالية، تطويع ما ينتجه الجيش من تكنولوجيا عسكرية للأغراض المدنية.
هذه بعض الدروس السريعة التي أمكن استيعابها من تجارب دول الربيع العربي، التي انقضت عليها الثورات المضادة، والتي نسأل الله ألا تقترب من التجربة الجزائرية، ونتمنى للجزائر تجربة تنمية مبشرة، ليعيش شعب الجزائر عشريات بيضاء تمحو تجربة العسكر والإرهاب في العشرية السوداء.