لجأت الجزائر مع بداية عام 2018 إلى إلغاء تصاريح الاستيراد لبعض السلع، وأصدرت قرارات بمنع استيراد عدد من السلع بشكل مؤقت -قدرت بنحو 900 سلعة-، من أجل تخفيض قيمة فاتورة الواردات لتصل إلى 30 مليار دولار خلال 2018 بدلًا من نحو 46 مليار دولار بنهاية 2017، وتأتي هذه الإجراءات لمواجهة ما تعانيه الجزائر من أزمة مالية، منذ انهيار أسعار النفط منتصف 2014.
والتجربة العملية أن منع استيراد السلع يفتح الباب للفساد بشكل كبير لتهريب السلع الممنوعة، كما يرفع من سعر السلع في السوق، وبخاصة إذا ما كان المنتج المحلي غير متوفر أو يفتقر للجودة التي تتمتع بها السلع المستوردة.
ولا تختلف السياسة الاقتصادية في الجزائر عن غيرها من الدول النفطية العربية، حيث يتم اللجوء إلى فرض قيود مالية ونقدية، من أجل تقليص عجز الميزان التجاري أو عجز الموازنة العامة، لكن لا يتم التفكير في تبني سياسة تنموية تعمل على بناء قاعدة إنتاجية قوية، وتغير من بنية الاقتصاد الجزائري من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي.
وفي ظل السياسات الاقتصادية الانكماشية التي تتبعها الحكومة الجزائرية ارتفعت معدلات البطالة خلال عام 2017 لتصل إلى 12.3% بعد أن كانت بحدود 10.5% خلال عام 2016، ومن شأن السياسات المؤيدة لتقييد التجارة بمنع الاستيراد أن تزيد من معدلات البطالة، لأن منع الاستيراد يعني بكل بساطة تراجع معدلات التجارة الداخلية وتسريح العمال، ولذلك يتوقع أن تقفز معدلات البطالة خلال 2018 لتلامس 13% أو تتجاوز هذا السقف.
إن سياسة تقييد الاستيراد يكملها ما يسمى بسياسة إحلال الواردات بأن يقوم الجهاز الإنتاجي المحلي بزيادة قدرته الإنتاجية، وهذا يتطلب مرونة غير متوفرة لدى قطاعي الصناعة والزراعة بالجزائر، حيث يتم استيراد العدد والآلات، ومستلزمات الإنتاج، فضلًا عن غياب إنتاج التكنولوجيا.
ولا يتوقع في ظل التوجهات الاقتصادية بالجزائر أن تشهد التنمية خلال العقود القادمة تغيرًا إيجابيًا ملموسًا، بسبب السير خلف الأجندة المطروحة من صندوق النقد الدولي، والتي تركز بشكل رئيس على خصخصة المؤسسات العامة وخروج الدول من النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص.
والملاحظ أن ترك النشاط الاقتصادي من قبل الدولة للقطاع الخاص، دون وجود مرحلة انتقالية، أو أن يصاحب ذلك غياب دور محدد ونتائج مستهدفة للقطاع الخاص في أجندة التنمية، يؤدي فقط إلى انتقال أمراض القطاع العام إلى القطاع الخاص، من القيام بعمليات احتكار ومضاربات والتركيز على القطاعات الاقتصادية ذات العائد السريع والمرتفع، وإهمال احتياجات المجتمع الضرورية، ومن هنا تزيد معدلات الفقر.
جاءت تصريحات المسئولين الجزائريين لتبرير قرارات تقييد الاستيراد، بأنها تستهدف حماية الصناعات المحلية، وهي حجة العديد من الدول النامية، بينما الواقع يدلل على أن هذه الصناعات قامت أصلًا على الحماية وليس المنافسة، وأنها بدون الحماية لا يمكنها العيش في أجواء تنافسية.
فالقرار الاقتصادي لابد أن يتسم بالتشاركية، ومراعاة تأثيره على باقي القطاعات، فهل قطاعا الصناعة والزراعة بالجزائر قادران خلال فترة المنع على توفير احتياجات المجتمع من السلع التي تم منع استيرادها، وبنفس الجودة أو بمستويات قريبة منها؟
ومن عجب أنه في الوقت الذي تستهدف فيه السياسات التجارية الجزائرية تراجع قيمة الواردات في عام 2018 بنحو 16 مليار دولار وبنسبة تصل إلى 35% تقريبًا، لن يتم الحفاظ على احتياطي البلاد من النقد الأجنبي عند وضعه الحالي بنحو 97 مليار دولار بنهاية 2017، ولكن ثمة توقعات بتراجعه إلى 85 مليار دولار في 2018.
ويخشى أن يكون قرار تقييد استيراد بعض السلع مشوبًا بشبهات فساد، فالقرار شمل مواد البناء (الحديد والأسمنت)، وبعض الأغذية، لكي يتمكن رجال الأعمال بالسلطة أو المسنودون منها بتسويق منتجات استوردوها خلال الفترة الماضية، ليحققوا أرباحا عالية خلال فترة منع الاستيراد.
وهذا التوقع وارد بنسبة كبيرة في ظل أجواء سياسية واقتصادية بدولة نامية مثل الجزائر، وتحظى بمعدلات فساد عالية على مدار السنوات الماضية، فسجلها كما ترصده مؤشرات مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، يظهر أن الجزائر دومًا دون تحقيق معدل 50% على درجات المؤشر، المكون من 100 درجة، ففي عام 2016 جاء ترتيب الجزائر بالمرتبة 108 بعد أن كانت بالمرتبة 88 في 2015، من بين 176 دولة يشملها تقرير منظمة الشفافية الدولية.
وهو ما يعني أن الأزمة المالية والاقتصادية أدت إلى زيادة معدلات الفساد، وهو مالا نستبعده عند قراءة قرارات منع الاستيراد.
ثمة استراتيجية معهودة للدول العربية النفطية على مدار العقود الماضية، مفادها أن يتم الانتظار حتى تنتهي أزمة انهيار أسعار النفط، وتبدأ دورة ارتفاع الأسعار، ليتم تسديد الديون والخروج من عجز الموازنة، وتبدأ النفقات العامة في الارتفاع، وزيادة احتياطيات النقد الأجنبي.
فواجب الحكومة الجزائرية، إذا ما كانت تستهدف حماية الصناعات المحلية بالفعل، أن تعلن عن برنامجها في تطور هذه الصناعات وقدرتها على المنافسة المحلية، فضلًا عن قدرتها على المنافسة الإقليمية والدولية، وأن تعلن عن مستهدفات رقمية بشأن تنوع الاقتصاد وعدم اعتماده على النفط.