في ضوء الأزمة الروسية مع كل من أمريكا وأوروبا بشأن أوكرانيا، اعتمد الرئيس الروسي بوتين على امتلاك زمام المبادرة واتخاذ القرار وفرض الأمر الواقع وحدد مسار الصراع كما يريد هو، لا كما تريد خصومه
فبعد إصدار مرسوميْه بالاعتراف بكل من جمهورية لوغانسك، ودونيتسك، أصبح يوجد واقع جديد. ويأتي تصرف بوتين في الأزمة الحالية، مع أمريكا والغرب بشأن أوكرانيا، من خلال خبرته السابقة في ضمه لإقليم القرم عام 2014، فمضى هو بالإقليم، واستمرت أمريكا وأوروبا إلى اليوم في فرض عقوبات اقتصادية، غير مؤثرة بشكل كبير على القرار الروسي.
تشير بيانات قاعدة البنك الدولي إلى أن روسيا تعايشت مع العقوبات الاقتصادية التي فرضت عليها من أمريكا وأوروبا منذ عام 2014، فتوجد مؤشرات اقتصادية لروسيا تأثرت سلبياً في ظل العقوبات، مثل سعر صرف الروبل الذي تراجع من 38.3 روبل للدولار عام 2014 إلى 72.1 روبل للدولار في 2020، وبلغ قرابة 80 روبل للدولار صباح الأربعاء 23 فبراير 2022. وقد تكون روسيا استفادت من تخفيض قيمة عملتها عبر بوابة الصادرات السلعية والخدمية.
أما احتياطيات روسيا من النقد الأجنبي، فبلغت عام 2013 قيمة 509 مليار دولار، وتراجعت عام 2014 إلى 386.2 مليار دولار، ولكنها في ظل العقوبات الأمريكية والأوروبية، وفي ظل تراجع أسعار النفط، استعادت رصيدها من احتياطي النقد الأجنبي ليصل إلى 596 مليار دولار عام 2020، ويتوقع أن يكون هذا الرصيد تجاوز حاجز الـ 600 مليار بفضل التحسن الحادث بأسعار النفط.
كذلك تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا تأثرت بسبب العقوبات الأمريكية الأوروبية، فتراجعت إلى 32 مليار دولار عام 2016، بعد أن كانت نحو 69 مليار دولار عام 2013، ولكنها بلغت 9.4 مليار دولار عام 2020.
وتراجع نصيب روسيا من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، يعود إلى العقوبات المفروضة عليها بنسبة ما، ولكن النسبة الأكبر تعود إلى تراجع التدفقات من الاستثمار الأجنبي على مستوى العالم، خلال السنوات الماضية.
والجدير بالذكر أن أوروبا وبخاصة ألمانيا كانت تخطط لأن تكون روسيا قبلتها في الاستثمارات الأجنبية، والنهوض بصناعتها، ولكن العقوبات أوقفت هذا الطموح الأوروبي.
ويوجد تأثير ليس كبيراً حدث لصادرات وواردات روسيا من السلع والخدمات منذ عام 2014 وحتى الآن، في ضوء العقوبات المفروضة عليها من قبل أمريكا وأوروبا، ففي عام 2013 كانت واردات روسيا من السلع والخدمات 468.6 مليار دولار، وصادراتها من السلع والخدمات 592 مليار دولار، بينما في 2020، بلغت وارداتها من السلع والخدمات 305 مليار دولار وصادراتها من السلع والخدمات 378 مليار دولار.
مع مراعاة أن عام 2020 هو عام الـتأثر الكبير بالتداعيات السلبية لكورونا على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى حركة التجارة بشكل خاص.
وما يمكن استنتاجه في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، أنها استطاعت أن تتعايش ويكون لها دورها في الاقتصاد العالمي، وبخاصة في مجال النفط، ولم تضطرها العقوبات لمراجعة قرارها العسكري والسياسي بشأن ضم اقليم القرم.
عام 2014 بدأت أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، ووقتها ذهبت بعض القراءات بأن هذه الأزمة مفتعلة لإضعاف روسيا عبر بوابة النفط التي تمثل لها مدخلاً مهماً إلى ميزانية الدولة، وكونها من أهم السلع التصديرية لروسيا.
إلا أن روسيا استطاعت أن توجد لنفسها بعد ذلك مكاناً بارزاً في إدارة ملف الطاقة على الصعيد الدولي، من خلال تكتل "أوبك +"، إذ سعت للحفاظ على تحسن أسعار النفط في السوق الدولية، إلا أن أزمة كورونا أكسبت روسيا وضعاً أفضل في هذا التكتل، على الرغم من تراجع الطلب على النفط في السوق الدولية، كأثر سلبي لجائحة كورونا.
حافظت روسيا من خلال تكتل "أوبك +" على التحكم في سعر النفط، والقفز به إلى مستويات أفضل خلال عام 2021، وبخاصة بعد رفض التكتل لمطالب بوتين بزيادة الإنتاج من النفط، لتهدأ معدلات التضخم في أمريكا وأوروبا، ولكن تكتل "أوبك +" بقيادة روسيا والسعودية، أصر على ثبات كميات الزيادة اليومية منذ منتصف عام 2021، وهو ما مثل رسالة مفادها إمكانية إدارة الأمور في سوق النفط دون وصاية أمريكية.
كما سعت روسيا ليكون لها دور بارز في منتدى الدول المصدرة للغاز الطبيعي، والجدير بالذكر أن روسيا تمتلك ثروة طائلة من النفط والغاز الطبيعي، تعطيها أوراق ضغط مؤثرة في سوق الطاقة الدولية، فحسب بيانات حديثة فإن روسيا تمتلك 80 مليار برميل من احتياطي النفطي، ويبلغ إنتاجها اليومي حسب تقديرات نهاية عام 2020، نحو 10.6 مليون برميل يومياً.
وبالنسبة للغاز الطبيعي فلدى روسيا احتياطيات تقدر بـ 47.2 تريليون م3، بما يمثل حوالي 23% من إجمالي احتياطيات العالم من الغاز، كما تنتج 638 مليار م3 من الغاز. والجدير بالذكر أن روسيا خلال عام 2021 أمدت أوروبا بنسبة تقدر بنحو 18% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، ومثلت حصة روسيا الإجمالية من صادرات الغاز لدول العالم نحو 29.3 مليون طن.
لقد أرسلت روسيا عدة رسائل لأوروبا والغرب، فيما يتعلق بتفعيل ورقة الغاز الطبيعي سياسياً، وإن كانت تتذرع بأسباب اقتصادية، فعندما طلب من روسيا ضخ المزيد من الغاز الطبيعي مع دخول الشتاء القارس في أوروبا، لكي تهدأ الأسعار، أعلنت روسيا أنها تركز في سياتها البيعية للغاز على العقود طويلة الأجل، وليس الصفقات العاجلة.
وإن كانت ألمانيا اتخذت مؤخراً قراراً سوف يؤثر على مستقبل صادرات الغاز لأوروبا، من خلال تجميد مشروع "السيل 2" الذي تكلف إنشائه نحو 10 مليارات دولار.
مساء الثلاثاء 22 فبراير/شباط 2022، خرج الرئيس الأمريكي بايدن، وبعض مسئولي إدارته، يتوعدون روسيا بفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية، بسبب ما اتخذته من قرارات بشأن الاعتراف بجمهورتي لوغانسك ودونيتسك، والواقع الجديد في أوكرانيا، فضلاً عن توقعات أمريكية، باحتمالات كبيرة لقيام روسيا باجتياح أوكرانيا.
ولكن على صعيد آخر رفضت الصين، اتخاذ أي قرارات لفرض عقوبات على روسيا، وهو ما يعني أن العقوبات على روسيا ستظل محصورة على أمريكا وأوروبا، بعيداً عن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، وهو ما يجعلها قضية صراع ثنائي بين القوتين الروسية من جهة والأمريكية والأوروبية من جهة أخرى.
وتعكس الأزمة متغيرات جديدة في خريطة القوى الدولية، ومدى تراجع التأثير الأمريكي، وبخاصة تجاه بعض الدول التي تمتلك أدوات للقوة مثل روسيا، التي يتوفر لها سلاح نووي، وكذلك تحرص على دور فاعل في سوق الطاقة الدولية، عبر ثرواتها من النفط والغاز الطبيعي.
إن التهديد بإخراج روسيا من النظام المالي العالمي، لن يكون سهلاً لارتباط مصالح كثيرة لدول تربطها مصالح اقتصادية بروسيا، ولعل المفيد في هذا الموقف، أن العقوبات الأمريكية أكثر تأثيراً على الدول الضعيفة، وبخاصة في المنطقة العربية، مثل السودان والعراق وليبيا وغيرهم.
بل إن إيران استطاعت أن توجد واقعاً جديداً أمام أمريكا والغرب لمواجهة العقوبات، وإن كان الأثر الاقتصادي للعقوبات على إيران أكثر إيلاماً مقارنة بروسيا.