تنطبق مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد" على واقع شركات النفط العالمية، التي حققت أرباحًا خيالية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي وظف فيها النفط سياسيًا كورقة ضغط في إدارة الصراع بجانب الحرب العسكرية.
وعادة ما تتجه الأنظار إلى الدول المنتجة للنفط، في حالة ارتفاع الأسعار، وتذهب التحليلات الاقتصادية إلى حسابات كم ستحصل تلك الدول من أموال جراء ارتفاع أسعار النفط، وأثر ذلك على موازينها الاقتصادية العامة، لميزان المدفوعات، وأرصدة الاحتياطيات من النقد الاجنبي، وانتعاش الموازنات العامة، وغيرها.
ولكن ثمة لاعب مهم في معادلة النفط على الصعيد العالمي، قد لا يتم التركيز عليه بالقدر اللازم، وهو الشركات المنتجة للنفط. بسبب اللوبي الذي تمارس هذه الشركات أعمالها من خلاله، عبر كافة مراحل الإنتاج، وحتى وصول مشتقات الطاقة للمستهلكين.
المتعارف عليه، أن تحصل شركات النفط على نسبة 40% من حصص الإنتاج لأبار النفط والغاز، نظير عمليات الاستكشاف والتنقيب، وهي حصة مؤثرة، تمكنها من لعب دور على الساحة العالمية.
ومما يزيد من دور هذه الشركات، أنها لا تمتلك فقط رؤوس الأموال، ولكنها تمتلك التكنولوجيا المتقدمة لهذه الصناعة، كما أن معظمها يمارس الاستثمار في كافة مراحل صناعة النفط، من استكشاف، وتنقيب، وإنتاج، ونقل، وتكرير للمشتقات، بل وإقامة الصناعات على المشتقات النفطية، مما يزيد من عوائدها نتيجة القيمة المضافة.
الرئيس الأمريكي بادين، هدد شركات النفط الكبرى في نهاية أكتوبر 2022، بأن سيفرض عليها ضرائب أعلى، ما لم تعيد استثمار أرباحها العالية في زيادة الإنتاج النفطي، بدلًا من إعادة استثمارها في شراء الأسهم، أو منح مزيد من الأرباح لمساهميها.
وجاء مطلب بايدن تحت ضغط حالة السخط بالشارع الأميركي لوصول معدلات التضخم لأرقام لم تشهدها على مدار العقود الأربعة الماضية، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، وقد ذكر الرئيس الأميركي أن أرباح شركات الطاقة خلال الربع الثاني من عام 2022 بلغت 70 مليار دولار، وأن الشركات وجهت استثمار 20 مليار دولار في عمليات إعادة شراء الأسهم الخاصة بها.
وإذا كان بايدن قد عاب على شركات النفط سلوكها في وقت الحرب، من تعظيم أرباحها وعدم إعادة استثمارها في زيادة الإنتاج، فلا يعني ذلك أن هذا السلوك مسموح به في غير وقت الحرب، فهذه الانتهازية الاقتصادية تفسد على الناس حياتهم، كما أنها تعبر عن فلسفة معيبة للمال في الفكر الرأسمالي الذي يحرك الشركات المنتجة للنفط.
وفي الوقت الذي يشكو في بايدن سلوك شركات النفط، وحرصها على رفع الأسعار، وتحقيق أرباح خيالية، تشكو أوروبا من كون أميركا تبيع لها الغاز بأربعة أضعاف سعره لديها، وكذلك تفعل النرويج مع الدول الأوروبية، من بيع الغاز بأسعار مبالغ فيها.
ومنذ ظهور النفط كمصدر اقتصادي للطاقة في مطلع القرن العشرين، مارست الشركات الكبرى المنتجة للنفط أوضاعًا احتكارية، أدت إلى تحقيقها أرباحًا خيالية، كما وطتدت هذه الشركات مكانتها في صناعة السياسة العالمية، إذ غالبية الشركات الكبرى المنتجة للنفط هي شركات متعدية الجنسيات.
والشركات الكبرى المنتجة للنفط، هي شركات ربحية بالدرجة الأولى، ولا تنظر لما يترتب على ارتفاع أو انخفاض الأسعار من أوضاع اقتصادية واجتماعية على الشعوب، فالربح أولًا وأخيرًا.
وخلال الفترة 2014 وحتى 2022، نجد أننا أمام مشهدين لأداء شركات النفط، ففي الأجواء التي شهدت فيه أسواق الطاقة تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 وحتى 2020، اتجهت هذه الشركات فورًا لوقف ضخ استثماراتها في كافة مراحل إنتاج وتسويق النفط والغاز الطبيعي.
كما أوقفت شركات النفط الإنتاج في العديد من حقول النفط، بدعوى عدم الجدوى الاقتصادية للإنتاج، مما أثر بشكل كبير على احتمالات أن يؤدي تراجع الإنتاج من النفط على معدلات النمو الاقتصادي.
ولكن المشهد الثاني، هو تلك الأجواء الصعبة التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث قفزت أسعار النفط في السوق الدولية إلى أسعار غير مسبوقة، وترتب على ذلك اكتواء اقتصاديات الدول كافة بمعدلات تضخم عالية، جنت منها أميركا نفسها ثمارًا مرة، حيث تراجعت مقاعد حكومة بايدن في مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات التي أجريت يوم الأربعاء 9 نوفمبر 2022، وكان ذلك بسبب فشل الحكومة في مواجهة التضخم، الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة.
في ظل خضوع سوق النفط الدولية لآليات العرض والطلب، والتي تمكن شركات النفط من تحقيق المزيد من الأرباح، في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن المستهلك في مختلف دول العالم هو من يدفع فاتورة أرباح تلك الشركات.
وحتى عندما هدد الرئيس الأميركي بايدين، بفرض المزيد من الضرائب على شركات إنتاج النفط، فإن ممثليها، صرحوا بأن هذه السياسة، سيكون لها نتائج عكسية، إذا سيؤدي رفع الضرائب إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهكذا تستمر دوامة ارتفاع الأسعار، في ظل إصرار شركات النفط على عدم التنازل عن حصص من أرباحها لصالح خفض الأسعار.
وإذا كان بايدن قد حركته الأوضاع الأمريكية، أو على وجه الدقة حرصه على تحقيق حالة فوز في الانتخابات، فإن هناك دول فقيرة وأخرى أشد فقرًا، أدى التضخم بها إلى مشكلات اقتصادية تحتاج إلى عقود لتلافئ أثارها السيئة، من فقر وبطالة، وديون عامة وخاصة.
بعد أزمة الطاقة عام 1973، بسبب القرار العربي بوقف تصدير النفط للدول الداعمة للكيان الصهيوني، لجأت الدول المستهلكة للنفط، وبخاصة الغربية منها مه أميركا إلى إنشاء وكالة الطاقة الدولية، واستطاعت لعقود تحويل معادلة أسعار النفط لصالحها، عبر أدوات ووسائل عدة، كان أبرزها تكوين المخزونات الاستراتيجية، ودفع الدول المنتجة باستمرار للإنتاج.
وفي إطار مواجهة الازمة الحالية لارتفاع أسعار الطاقة، تم اقتراح أن يتم وضع سقف لشراء النفط والغاز، ولكن هذا المقترح لم يدخل حيز التنفيذ، لاعتراض البعض عليه، وأن المقترح يتناقد مع قواعد العرض والطلب، وقد تؤدي قلة المعروض بالسوق من قبل الدول المنتجة.
ولذلك ينبغي أن تكون هناك خطوة للحد من سيطرة هذه الشركات على مقومات سوق الطاقة، ووضع سقف لأرباحها، وكذلك وضع قواعد يمكن في إطارها اعتبار سلوك الشركات المنتجة للنفط في وضع احتكاري، مع مراعاة ألا تكون هذه الأليات في يد الحكومات وحدها، بل لابد من مشاركة المجتمع المدني.
فالتجربة التاريخية، للشركات متعدية الجنسيات، والتي تأتي الشركات الكبرى المنتجة للنفط في إطارها، استطاعت أن توجه الحكومات، أو أن تزيح بعضها وتأتي بالبعض الآخر. أما المجتمع المدني، فسيكون حائط صد في وجه أطماع تلك الشركات، ويمكنه بشكل كبير تحقيق مصالح المستهلكين، وبخاصة الأفراد.
وقد يكون من الأدوار المهمة التي يمكن أن يؤديها المجتمع المدني، للحد من سيطرة شركات النفط على سوق الطاقة، مطالبته للحكومات، بإبرام عقود متوازنة مع تلك الشركات، بحيث يتم تخفيض الحصص التي يحصلون عليها من كميات الإنتاج، أو أن تتكاتف الدول لتكوين شركات جديدة تدخل السوق لإحداث توازن مع الشركات الكبرى، على أن يسمح للأفراد بتملك أسهم تلك الشركات الجديدة، ولا تكون قاصرة على الحكومات أو الشركات.