فيما يعد توجه مصري جديد لإعادة بناء العلاقات الاقتصادية الخارجية، بدأت زيارات عدة للرئيس المصري، محمد مرسي، إلى مجموعة من الدول التي كانت تُعد بعيدة عن الاهتمامات المصرية، حيث شهدت الشهر الماضي زيارة مرسي للهند وباكستان، ومن المقرر أن يبدأ زيارة روسيا اليوم الخميس، كما أُعلن عن قيامه بزيارة للبرازيل خلال مايو/ أيار القادم.
التوجه الجديد لمصر في بناء علاقاتها الاقتصادية الخارجية يقوم على عدم تركز العلاقات الاقتصادية في عدد محدود من الدول، ولكن أن تُعيد مصر علاقاتها مع دول أفريقية وآسيوية وفي أمريكا اللاتينية كما كانت من قبل، بالإضافة للاحتفاظ بعلاقاتها مع كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي.
ويتوفق هذا التوجه المصري مع الأفق الجديد الذي يشهده الاقتصاد العالمي من بزوغ اقتصاديات دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا)، حيث أصبحت هذه الدول قادرة على إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية للعالم، ولديها ما تعطيها في مجال الاستثمارات الأجنبية، والتطور التكنولوجي، وحصتها المتصاعدة في الصادرات العالمية.
وعلى الرغم من العلاقات التاريخية بين كل من مصر وروسيا، ورغبة الكثيرين في إحداث حالة من التوزان في علاقات مصر الخارجية سواء كانت على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، إلا أن هناك ما يعكر صفو عودة العلاقات وتحسين معدلات أدائها في المجال التجاري والاستثماري، وهو الملف السوري، حيث تتبنى روسيا موقفًا مناصرًا لنظام الأسد في سورية، بينما النظام المصري يعمل على رحيل نظام الأسد، وبخاصة في ظل جرائم القتل التي يرتكبها ضد شعبه.
طبيعة العلاقات
ثمة علاقات تاريخية مرت بها العلاقة بين البلدين، وبخاصة بعد ثورة 1952، حيث ساهم الاتحاد السوفيتي السابق في بناء العديد من الصناعات والمشروعات الكبرى بمصر، وعلى رأسها السد العالي، إلا أن هذه العلاقات تأثرت سلبيًا بعد انتصار مصر في حربها على إسرائيل في عام 1973، حيث توجهت مصر بعد ذلك لخيار السلام الذي تبنته أمريكا والغرب، وبالتالي تحولت علاقات مصر الاقتصادية على صعيد التجارة والاستثمار من الاتحاد السوفيتي، إلى أمريكا والغرب.
وتعكس الأرقام هذا التراجع حتى نهاية عام 2012، حيث لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 2.8 مليار دولار في عام 2011، وارتفع إلى 3.5 مليار دولار في 2012 ، ويعكس الميزان التجاري وجود فائض لصالح روسيا.
فالصادرات المصرية لروسيا في عام 2012 حققت 341 مليون دولار، مقارنة بنحو 482 مليون دولار في عام 2011. أما الواردات المصرية من روسيا فقد وصلت إلى 3.2 مليار دولار في عام 2012 بعد أن كانت بحدود 2.3 مليار دولار.
وثمة ملمح مهم في ضوء هذه الأرقام، ففي الوقت الذي تتراجع فيه الصادرات المصرية لروسيا، تزيد وارداتها من نفس الدولة، كما نجد أن الصادرات المصرية لروسيا في أحسن حالتها لا تمثل إلا نسبة 20 % في عام 2011، و 10.6 % في عام 2012 على التوالي من حجم واردات مصر من روسيا.
كما أن الواردات المصرية تمثل سلع استراتيجية وعلى رأسها القمح، الذي يمثل نسبة 50 % من الواردات، بالإضافة إلى الأخشاب، وورق الصحف وبعض العدد والآلات. أما الصادرات المصرية فقد تركزت في السلع الزراعية والموالح، وهو ما يعني حاجة مصر إلى توطيد علاقاتها بروسيا خلال الفترة القادمة.
ولا يمثل حجم التبادل التجاري لمصر مع روسيا أكثر من 30% فقط من حجم تبادلها التجاري مع أمريكا والذي يصل لنحو 9 مليار دولار.
أما على صعيد الاستثمارات بين الجانبين، فهي ضعيفة، مقارنة بما عليه الوضع لدول أخرى، فالاستثمارات الروسية في مصر لا تتجاوز 65 مليون دولار، من خلال 383 شركة، ولا يوجد أية تناسب بين عدد الشركات وحجم الاستثمارات، ولكن لعل طبيعة الاستثمارات هي التي جعلتها في هذا الإطار الضيق، فهذه الشركات تعمل في مجالات السياحة والإنشاءات والأعمال الخدمية. ولم تخرج الاستثمارات المصرية في روسيا عن هذا النطاق الضيق فلم تتجاوز 13 مليون دولار، وتتركز في مجال تخزين الأخشاب، التي تستوردها مصر بكميات كبيرة من روسيا.
وتعد روسيا من أكبر عشرة دول مصدرة للأفواج السياحة لمصر، حيث تقدر أعداد السائحين الروس بنحو 1.5 مليون سائح سنويًا، وإذا ما اعتبارنا عدد السائحين الإجمالي لمصر والمقدر بنحو 15 مليون سائح سنويًا، فمعنى هذا أن السياح الروس يمثلون نحو 10% من إجمالي أعداد السائحين لمصر.
أفاق التعاون
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ورثت روسيا تركة ثقيلة، من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وهو وضع لا يختلف كثيرًا عما ورثته مصر بعد ثورة 25 يناير، إلا أن روسيا استطاعت بعد إزاحة يلتسن عن السلطة أن تعيد بناء مؤسساتها بشكل أفضل، وتطور أداءها الاقتصادي بشكل جيد، حتى تمكنت من مضاعفة قيمة ناتجها الإجمالي، وسيطرت على مواردها النفطية والزراعية، ما مكنها من المشاركة في إعادة منظومة الاقتصاد العالمي، بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ولا شك أن انحيازها للانضمام لمجموعة البيركس أضاف لها عنصر قوة في مجال التجارة الدولية وكذلك الاستثمار الأجنبي.
وتلوح في الأفق مجموعة من المحاور التي يمكن أن تحقق مصالح متبادلة بين كل من مصر وروسيا خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يمكن أن نشير إليه فيما يلي:
ثمة نتيجة يمكن توقعها لمستقبل العلاقات الاقتصادية الخارجية لمصر من هذه الزيارات النوعية، وهي أن مصر تسعى من خلال المدخل الاقتصادي أن تعيد دورها الإقليمي كقوة عربية وأفريقية وإسلامية، وبالتالي فإن تنوع شركاءها التجاريين سوف يساعدها فيما بعد في إدارة ملفاتها السياسية المتعددة. بالإضافة إلى حاجة مصر إلى تنشيط اقتصادها الذي يعاني مشكلات عدة، وهو ما يتطلب الانفتاح على تجارب أخرى للاستفادة منها في عملية إعادة البناء.
ويمكننا أن نلمس نتائج على الأرض في الأجل القصر لإحداث توازن في علاقات مصر الاقتصادية الخارجية، والحصول على ثمار من قبل أوروبا وأمريكا، فقد أعلن بالقاهرة عن رغبة أمريكا في إعادة ملف منطقة التجارة الحرة بين مصر وأمريكا، وهو الملف الذي ظل موصدًا في وجه مصر على مدار العقدين الماضيين.