في عام 2000 خرجت العملة الأوروبية الموحدة إلى التداول في الأسواق، إلا أن بريطانيا كان لها رأي آخر، إذ اشترطت أن تُبقي على عملتها، لاعتبارات تاريخية، فاختفت عملات باقي الدول الأوروبية مثل المارك الألماني والفرنك الفرنسي وغيرهما من العملات الأخرى، وفي يونيو 2016 جاء تصويت البريطانيين ليعلنوا عن رغبتهم في الخروج من ربقة الاتحاد الأوروبي، وسوف يترتب على هذه الخطوة آثاراً اقتصادية متعددة سواء فيما يخص الاقتصاد العالمي، أو مستقبل الاتحاد الأوروبي، وأيضًا ينتظر البريطانيون أن يجنوا ثمار قرارهم بالتصويت بخروجهم من الاتحاد الأوروبي، من تحسن اقتصادي، لا يزاحمهم فيه المهاجرون، أو ألا يساهموا في فواتير إنقاذ اقتصاديات بلدان أوروبية أخرى.
لم تكن بريطانيا على وفاق مع باقي الدول الأوروبية والولايات المتحدة، بشأن العديد من القضايا الاقتصادية المثارة بعد الأزمة المالية العالمية، وطريقة التعامل معها، فـ “براون” رئيس الوزراء البريطاني إبان الأزمة المالية العالمية، كان شديد الاعتراض على معالجة الأزمة المالية العالمية بنفس الطرق التقليدية، ونادى بضرورة مراجعة النظام المالي العالمي، وبخاصة دور المؤسسات المالية الدولية، وكذلك كانت له اعتراضات على بقاء الدولار على رأس العملات الدولية لتسوية المعاملات الدولية.
لقد عاشت الأسواق العالمية لحظات من الترقب منذ بدء التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفور ظهور النتائج النهائية للتصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، تراجعت مؤشرات معظم أسواق المال العالمية، وتراجع سعر النفط، وكذلك انخفض سعر اليورو والجنيه الإسترليني، وذهب الجميع يتحسس آثار وقع نتيجة التصويت، ويعيد الجميع الآن حساباته لما بعد هذا القرار التاريخي بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإلى أي شيء، ستؤول الأوضاع الاقتصادية؟
مع الأخذ في الاعتبار أن عملية انفصال بريطانيا اقتصاديًا عن الاتحاد الأوروبي، لن تتم بين يوم وليلة، ولكن هناك إجراءات معقدة على الجانب التشريعي والمؤسسي، بما يؤدي إلى الوفاء بالالتزامات والحصول على الحقوق لكلا الطرفين، سواء من قبل بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي.
ومن المهم ونحن ننظر إلى نتائج التصويت بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، أن نستحضر التجربة التاريخية التي خاضتها بريطانيا، إبان أزمة الكساد الكبير في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، إذ خرجت نظريات كينز حول الإنفاق وسعر الفائدة، ودور الدولة لتُحدث تغييرًا حقيقيًا في التعامل مع الرأسمالية، وكذلك تجربة “مارجريت تاتشر”، رئيسة الوزراء البريطانية السابقة (خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين)، التي أنهت جزءًا كبيرًا من مسلمات كينز حول دور الدولة، ومهدت التاتشرية للرأسمالية المتوحشة، ولكن ما جنَّب بريطانيا الآثار السلبية للتاتشرية، هو وجود نظام ديمقراطي يراقب الحكومة بشكل كبير، ويمنع ممارسات الفساد في أكبر برنامج للخصخصة في بريطانيا.
ولذلك يُتوقع أن تتم عملية الخروج لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأقل خسائر اقتصادية ممكنة، وبخاصة أنها أتت في إطار ديمقراطي، وليس قرارًا حكوميًا فوقيًا. وإذا ما أردنا أن نقف على تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فيمكننا نتناوله على المحاور الآتية:
لم يكن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى المزيد من الأحداث التي تزيد من حالة الارتباك، وغياب التفاؤل بتعافي معدلات النمو الاقتصادي، فمع إخفاقات الصين اقتصاديًا على مدار الشهور الأولى من عام 2016، ظلت الحسابات الاقتصادية عالميًا تتحسب لكيفية التعامل مع الآثار السلبية للوضع الصيني، وكيف يمكن تفاديها، لما يقوم به الاقتصاد الصيني من قيادة النمو بالاقتصاد العالمي.
وإذا ما كانت القراءة في الأجل القصير تعطينا نتائج سلبية فيما يتعلق بمؤشرات الأسواق المالية العالمية، أو انخفاض بعض العملات الدولية، وبخاصة اليورو والجنيه الإسترليني أمام الدولار، فإننا يجب أن ننظر للأمر على المديين المتوسط وطويل الأجل، والذي يتوقع لهما، أن تتم عملية تأقلم مع الحدث وتفادي الآثار السلبية الناتجة عن الحدث في الأجل القصير، سواء على الصعيد البريطاني، أو الأوروبي والعالمي.
ولكن السيناريو الذي يحتاج إلى قراءة جيدة هو أثر هذا الانفصال على خريطة القوى الاقتصادية الدولية، حيث مثل الاتحاد الأوروبي دومًا مساندًا لأمريكا في مواجهة الدول الصاعدة، وبخاصة الصين، لتحجيم صعودها الاقتصادي، كما شهد هذا التلاحم بين أمريكا والاتحاد الأوروبي صورًا أخرى لفرض عقوبات اقتصادية كما حدث مع إيران في عام 2012، وترتب عليه أضرارًا اقتصادية كبيرة لإيران، وتكرر نفس الموقف تجاه روسيا في عام 2015، حيث لازالت روسيا تعاني من تبعات فرض العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل أوروبا وأمريكا، بعد تدخلها المسلح في الأزمة الأوكرانية، وسيطرتها على جزيرة القرم.
إن حضور الاتحاد الأوروبي على الصعيد العالمي، لم يكن محصورًا فقط في مساندة أمريكا أو دعمها على الصعيد العالمي، ولكنه مثل قوة مماثلة في العديد من المنظمات المالية والاقتصادية الدولية، حيث منحت منظمة الاتحاد الأوروبي صفة العضوية الكاملة في تلك المنظمة، كما هو معمول به في منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال. وسيكون الوضع على مستوى الاقتصاد العالمي متوقفًا على ما سيترتب عليه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. هل سيتفكك الاتحاد الأوروبي؟
وفي حالة تسبب خروج بريطانيا في انهيار الاتحاد الأوروبي (حدوث هذا الأمر يستغرق سنوات، والتخلص من عواقبه يحتاج على الأقل فترات الأجل المتوسط، أي نحو 5 سنوات) ستكون هناك حالة الارتباك في الاقتصاد العالمي أكبر، وسيشهد الاقتصاد العالمي مزيداً من الركود، وستتفجر العديد من المشكلات الاقتصادية، وبخاصة لبعض الاقتصاديات الضعيفة المرتبطة بالاتحاد الأوروبي.
إن المستفيد شبه الوحيد من المصير المجهول للاتحاد الأوروبي، وكذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هو الاقتصاد الأمريكي، حيث سينظر إليه من وجهة نظر المستثمرين على أنه الاقتصاد الأكثر استقرارًا، كما أن الدولار سيقوى موقفه بشكل كبير، باستمراره عملة دولية لتسوية التعاملات الاقتصادية الدولية، وبالتالي عودة المزيد من المزايا الاقتصادية والمالية التي فقدتها أمريكا منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
وثمة تهديد يخص الاقتصاد العالمي، مرتبط بمصير الاتحاد الأوروبي، وهو الاتفاق الذي أثير النقاش والتفاوض بشأنه، فيما يخص أمريكا والاتحاد الأوروبي حول منطقة التجارة الحرة بينهما، والتي كانت تقوم على أنها أكبر منطقة تجارة حرة في تاريخ العالم، لما يعكسه اقتصاد التكتلين من قيمة كبيرة.
وبالتالي لا يجب أن يؤخذ الأمر في إطار أن كلاً من الصين وروسيا يمكنهما أن يحلا محل الاتحاد الأوروبي، سواء فيما يخص العلاقات الاقتصادية البينية مع أمريكا، أو تقاسم النفوذ على خريطة القوى الاقتصادية الدولية، وبخاصة أن ألمانيا التي تعد أكبر اقتصاد أوروبي، وأحد أقوى الاقتصاديات العالمية على رأس الاتحاد الأوروبي.
السؤال هنا، هو: هل سينفرط عقد الاتحاد الأوروبي، ويكون مصيره 28 دولة متفرقة كما كان من قبل؟ لقد تسرع الكثيرون في قراءة المشهد على أنه بداية انهيار الاتحاد الأوروبي، وأن الحركات اليمينية في مختلف البلدان الأوربية، سوف تنجح في فرض إرادتها بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي كما حدث في بريطانيا، مدفوعين باتجاههم العنصري ضد المهاجرين، ولكن لابد من تفهم العقلية الأوروبية، والتي تنطلق من نقطتين مهمتين، وهما الحرية والمصلحة، وعلى الرغم من وحدة المبادئ، إلا أن النتائج قد تختلف من دولة إلى أخرى، وبخاصة أن بعض اقتصاديات أوروبا التي تبرز فيها الحركات العنصرية، تُعاني من مشكلات اقتصادية معقدة، قد تُؤدي إلى مزيد من الآثار السلبية في حالة انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، مثل إيطاليا وإسبانيا وبلغاريا.
فحرص الدول الأوروبية الكبرى (فرنسا + ألمانيا) على بقاء الاتحاد الأوروبي متماسكًا على الرغم من وجود مشكلات اقتصادية في بعض البلدان قد تفرض خروجها من الاتحاد الأوروبي، مثل اليونان – التي نجحت في ابتزاز الاتحاد الأوروبي بدعوى الانفصال – عجلت بقرار البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث شعر البريطانيون بأنهم يدفعون فواتير مساندة اقتصاديات ضعيفة، وفاسدة في نفس الوقت، بينما دافع الضرائب البريطاني لا يحصل على أية إيجابيات من هذه المساندة.
وبالتالي تبقي السيناريوهات مفتوحة إما تعامل الاتحاد الأوروبي مع قرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، على غرار السماح لها بالاحتفاظ بعملته عند إعلان الاتحاد في عام 2000، بحيث يسمح لها بالتواجد في المؤسسات الاقتصادية والمالية بالاتحاد الأوروبي بصفة مراقب، أو استمرار بعض المزايا المتعلقة بالتجارة. وقد يكون الانفصال التام وارداً ولكنه يمثل صعوبة للطرفين.
بعد القراءات السريعة من قبل البعض في إطار انهيار مؤشرات الأسواق المالية العالمية، والبريطانية منها بوجه خاص، أو انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني بنسبة 10%، اتجهت التوقعات نحو القول بارتفاع معدلات التضخم، وزيادة فاتورة الواردات، واحتمالات تراجع معدلات النمو، وبخاصة في قطاع العقارات.
إلا أن الإدارة البريطانية، وفي ضوء التجربة الأوروبية، لم تترك الناس والأسواق في حالة من التخبط، ولكن خرج محافظ البنك المركزي، ليحدد مسئوليته عن التعامل مع قضيتي التضخم وسعر الفائدة، وأن البنك المركزي البريطاني على استعداد لضخ 250 مليار جنيه للمحافظة على وضع التوازن بالأسواق.
المخاوف التي يثيرها البعض تجاه ارتفاع معدلات البطالة، قد تُبددها السياسات الجديدة التي ستحددها بريطانيا تجاه العمالة الأجنبية، وخاصة أن أي سياسة اقتصادية لبريطانيا خلال المرحلة المقبلة ستكون مُنصبة على تخفيف حدة البطالة وزيادة معدلات التشغيل بين البريطانيين، كما سيستفيد الاقتصاد البريطاني من قيمة التزاماته المالية التي كانت تدفع لصالح المؤسسات الأوروبية المشتركة.
وقد تسمح بعض الأمور التي يرى الخبراء أنها سلبية في تحسين الوضع الاقتصادي البريطاني، ففيما يخص خفض سعر الجنيه الإسترليني، قد يصب في زيادة الصادرات، وكذلك زيادة الرواج السياحي، وبخاصة أن بريطانيا وجهة سياحية عالمية. فبيانات البنك الدولي تُفيد أن العجز بالميزان الجاري لبريطانيا يتصاعد بشكل كبير، ففي عام 2011 كان العجز بالميزان الجاري بحدود 43.6 مليار دولار وصل في عام 2014 إلى 151.8 مليار دولار، أي إلى ما يزيد عن ثلاثة أضعاف، وهو ما يجعل البريطانيون يشعرون بأن تجربة الاتحاد الأوروبي لم تكن في صالحهم، في ظل تفاقم هذا العجز، وقد تؤدي السياسات الاقتصادية الجديدة إلى تحسن هذا العجز وتراجعه، بما يسمح بزيادة الصادرات السلعية والخدمية.
القراءة السريعة لأثر الانسحاب البريطاني على العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والاتحاد الأوروبي، أن حصة الاتحاد الأوروبي ستنقص بمقدار حصة بريطانيا في تعاملاتها مع الدول العربية، وحسب بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد، يستحوذ الاتحاد الأوروبي على نسبة 12.8% من الصادرات العربية، والتي يغلب عليها النفط والغاز الطبيعي، بينما يصل نصيب الاتحاد الأوروبي من إجمالي الواردات العربية نسبة 28.9%، وبذلك يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول للدول العربية.
أما إذا نظرنا إلى مستقبل العلاقات الاقتصادية مع بريطانيا في ضوء انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، نجد أن بريطانيا قد تُحقق بعضًا من المزايا، المترتبة على انخفاض عملتها، حيث سيساعد ذلك على زيادة الواردات العربية منها، كما سيؤدي إلى زيادة حركة السياحة العربية وزيادة الإنفاق في ظل تراجع العملة البريطانية.
ويلكن في المقابل، فإنه من المتوقع أن تتضرر الاستثمارات العربية في بريطانيا من جهتين، الأولى، بسبب انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، وبالتالي ستقل قيمة هذه الاستثمارات، وأيضًا في ضوء تراجع سعر الفائدة وارتفاع التضخم، ستتضرر الاستثمارات العربية، كما ستنخفض قيمة العقارات في بريطانيا في الأجل القصير، لأن جزءًا كبيرًا من الاستثمارات العربية في بريطانيا يأتي في مجال العقارات، وكذلك أسواق المال، حيث انخفضت أسعار الأسهم والسندات على مدار الأيام القليلة التالية لإعلان نتيجة الاستفتاء في بريطانيا (1).