تزايد الحضور الروسي في المنطقة العربية خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة بشكل ملحوظ، وبخاصة بعد التواجد الروسي في سورية من خلال قواته العسكرية، وكذلك التنسيق بين روسيا ومنظمة الأوبك التي تحظى بحضور خليجي كبير، وبخاصة، السعودية والإمارات.
حين ألمت أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية بكل منتجي النفط، استطاعت منظمة الأوبك بقيادة السعودية أن تصل إلى اتفاق مع الدول المنتجة للنفط من خارج المنظمة وعلى رأسهم روسيا على قرار خفض الإنتاج، وهو ما ساعد على عدم انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، وإن كانت أسعار النفط لازالت متدنية، وتضر باقتصاديات الدول المنتجة.
الجدير بالذكر أن الرئيس الروسي بوتين، قد وجه الاتهام للسعودية بأنها وراء انهيار أسعار النفط في السوق الدولية لصالح أمريكا، لتعقيد الأوضاع الاقتصادية لروسيا في ظل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها عليها كل من أمريكا والاتحاد الأوروبي. إلا أنه ومع بداية 2016 اتخذت العلاقات الروسية السعودية منحًا آخر يمكن أن نسميه تصالحًا أو اتفاقًا حول ملفات، وليس تحالفًا أو صداقة استراتيجية، توقف عند الاتفاق على قرار خفض سقف إنتاج النفط في الدول المصدرة، بدءًا من مطلع عام 2017.
التشابك بين الاقتصاد والسياسية واضح ويساعد في تفسير تطور العلاقات الروسية مع دول منطقة الخليج، من خلال أكثر من موقف. وفي ظل توتر العلاقات بين الخليج وتركيا وتزايد التوتر الخليجي الإيراني لوحظ أن ثمة تصريحات لمسئولين من السعودية حول عزمها على إنشاء مفاعلات نووية، وأنها سوف تستعين بروسيا في هذا الشأن، كما تم الحديث من قبل مسئولين سعوديين وإماراتيين عن عزمهم استيراد منظومة الدفاع الروسية أس 400. وهو اتجاه يعزز من صادرات روسيا العسكرية، وينعش اقتصادها الذي يعاني من العقوبات الاقتصادية.
كما كان لاندلاع الأزمة الخليجية البينية، المتمثلة في حصار دولة قطر، أثر في تنامي الدور الروسي على الصعيد الاقتصادي، عبر البوابة السياسية، فطرفي الأزمة سعيا لاستقطاب روسيا إلى جانبه عبر الإعلان عن اتفاقيات للتجارة والاستثمار.
تصدرت الملفات الاقتصادية زيارة بوتين الأخيرة في أكتوبر 2019 لكل من السعودية والإمارات، حيث أُعلن عن توقيع الجانب الروسي لنحو 10 اتفاقيات تخص الاستثمار مع الامارات بنحو 1.3 مليار دولار، وكذلك توقيع الجانب الروسي لنحو 20 اتفاقية تخص الجوانب التجارية والاستثمارية مع السعودية. وحسب بيانات جهاز الاحصاء الخاص بدول مجلس التعاون الخليجي، فإن قيمة التبادل التجاري لدول المجلس مع روسيا ارتفعت في عام 2017 إلى 4.1 مليار دولار، مقارنة بـ 3.5 مليار دولار في 2016، وبلغت الزيادة في التبادل التجاري بين الطرفين خلال عامي 2016 و2017 نسبة 17.6%.
وبشكل عام، تمثل قيمة التجارة لدول الخليج مع روسيا نحو 0.4% من إجمالي التجارة الخارجية لدول الخليج مع العالم، ويفضي ميزان التجارة بين الطرفين إلى فائض تجاري لصالح روسيا بنحو 2.2 مليار دولار في عام 2017، مقارنة بـ 1.8 مليار دولار في عام 2016.
وتتصدر دولة الإمارات دول الخليج من حيث التعاملات المالية والتجارية مع روسيا، فوفق بيانات 2017، استحوذت الإمارات على نسبة 61% من قيمة التبادل التجاري مع روسيا، تلتها السعودية بنسبة 24.9%. وفي عام 2017 بلغت الواردات السلعية الخليجية من روسيا ما قيمته 3.1 مليار دولار. وتمثلت الواردات في الذهب والأحجار الكريمة التي مثلت نسبة 33% تقريبًا، ثم النحاس ومصنوعاته بنسبة 16.9%، ثم الحبوب بنسبة 14.4%.
أما الاستثمارات المتبادلة بين دول الخليج وروسيا، فحسب البيانات المنشورة في عام 2019 بالنسبة لدولة قطر، فقد بلغت استثماراتها المتبادلة مع روسيا لنحو 13 مليار دولار، ويأتي معظمها في قطاع النفط، حيث تمتلك قطر نسبة 19% من اسهم شركة “روس نفط”.
أما الإمارات فالبيانات المتاحة عنها تشير إلى أن استثماراتها المتبادلة مع روسيا في عام 2016 بلغت نحو 18 مليار دولار، وتحظى الشركات الروسية وكذلك العاملين الروس بحضور ظاهر في دولة الإمارات، عبر أنشطة الخدمات والتجارة.
يلاحظ من خلال قراءة البيانات الخاصة بالتجارة، أن السلع المتبادلة ليست على مستوى السلع الاستراتيجية، وحتى الحبوب التي تمثل 14.4% من واردات الخليج السلعية من روسيا، يمكن تدبيرها من مصادر أخرى، وبخاصة أن العلاقات الخليجية مع الدول المنتجة للحبوب تسمح لها بتدبير كافة احتياجاتها.
على الصعيد التجاري تعتبر روسيا ودول الخليج متنافسين، من حيث السلع التصديرية، لكون النفط يمثل عصب الاقتصاد للطرفين، وإن كان هناك تفوق ملحوظ لروسيا في جانب إنتاج وتصدير السلاح، إلا أن جانب إنتاج التكنولوجيا في المجالات الأخرى، لا يوجد ما يميز أحد الطرفين على الآخر، أو يجعل له ميزة تنافسية على الصعيد العالمي، وإن كان بلا شك أن إنتاج روسيا التكنولوجي أكبر من دول الخليج.
وفي الوقت الذي تنسق فيه السعودية والإمارات مع الجانب الروسي فيما يتعلق بأسعار النفط في السوق الدولية، عبر أوبك، فإن هناك علاقة قوية بين روسيا وقطر في منظمة الدول المصدرة للغاز الطبيعي، والتي تعتبر كل من روسيا وقطر من الدول البارزة والمؤسسة لهذه المنظمة.
ولكن تبقى القراءة الاستراتيجية لعلاقة روسيا الاقتصادية مع دول الخليج، فهل تستهدف روسيا لأن تكون شريكًا تجاريًا واقتصاديًا في مرتبة متقدمة مع دول الخليج، كما هو الحال مع أمريكا والصين أو الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال؟
قد يكون ذلك حلمًا روسيًا، ولكنه حلم بعيد المنال في ضوء امكانيات روسيا الاقتصادية، وكذلك حالة الصراع من قبل القوى الكبرى على منطقة الخليج، من حيث الاستفادة من ثرواتها النفطية، أو اعتبارها سوقًا لصناعاتها الاستهلاكية المتقدمة، باعتبار دول الخليج لديها قدرة عالية على الدفع، وأيضًا التركيز على الاستفادة من الفوائض المالية الخليجية الناتجة عن الطفرات في العوائد النفطية.
وبطبيعة الحال قد لا تملك الدول الخليجية قرار تحول استراتيجي في علاقاتها الاقتصادية بروسيا، دون حساب مصالح القوى المتجذرة في المنطقة وعلى رأسها أمريكا، وما تملكه من سيطرة على منابع النفط، ووجود قواعدها العسكرية، والتي تمتد عبر اتفاقيات حماية لعقود.
وقد يكون المبرر للزيادة الملحوظة في العلاقات التجارية والاستثمارية بين الطرفين خلال العقد الماضي، كما ذكرنا من قبل لدواع سياسية تخص دول الخليج، أو الترتيب مع روسيا فيما يتعلق ببعض الملفات الإقليمية الشائكة مثل الملف السوري، أو إدارة دافة الصراع السعودي الإيراني، أو الضغط على تركيا في بعض الملفات، وبخاصة أن روسيا لديها الآن ملفات مهمة على صعيد الجانب التركي، سواء كانت تخص الجانب السياسي والامني أو الجانب الاقتصادي.
لا يمكن قراءة السلوك الروسي مع دول الخليج على الجانب الاقتصادي بمعزل عن أدائها في باقي دول المنطقة العربية، حيث حظيت الشركات الروسية خلال الفترة الماضية بعقود واستثمارات لا بأس بها في العراق، إلا أن اتفاقياتها في مصر، تعد الأكبر في المنطقة عبر صفقة المحطات النووية. وهو ما يجعلنا نرصد السلوك الروسي في إطار أنه نواة لتواجد ومشاركة دائمة مع دول المنطقة خلال الفترة القادمة.