لا يزال البترول هو عصب حضارة هذا العصر بلا منافس، ولا يظهر هذا الخام في بلد ما حتى ينتشي أهله طمعا في تحسين أحوالهم المادية وارتقاء سبل العيش، خاصة إذا كان هذا البلد من الدول الفقيرة التي تعاني ويلات متعددة من جراء فقرها.. وهو ما ينطبق على حالة تشاد التي بدأت في تصدير بترولها في عام 2004 بطاقة تصديرية قدرها 170 ألف برميل يوميا، ويتوقع أن تصل لنحو 200 ألف برميل بنهاية عام 2006.
ونظرا لحالة الفقر التي تعاني منها تشاد وعدم وجود حدود بحرية لها، فقد شرع البنك الدولي في تمويل خط لضخ بترول تشاد عبر أراضي الكاميرون، بتكلفة تصل لنحو 4 مليارات دولار؛ وذلك نظير اتفاق بين البنك وتشاد يتم من خلاله ترشيد إنفاق عوائد النفط وتوظيفها لخدمة التنمية والنهوض بحالة الفقراء، وخاصة أن نحو أكثر من نصف السكان في تشاد يصنفون على أنهم يعيشون تحت خط الفقر بإنفاق دولارين في اليوم. ويقوم على أمر إنتاج البترول كونسورتيوم مكون من شركتين أمريكيتين (إكسون موبيل، وشيفرون) تحظيان بـ 65% من إنتاج البترول في تشاد وأخرى ماليزية (بتروناس) تنتج 35% من بترول تشاد.
ودولة تشاد تصنف على أنها من البلدان الأشد فقرا على مستوى العالم، وتأتي على رأس قائمة الدول التي تتمتع بمعدلات عالية في الفساد (يشير تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2005 إلى أن تشاد تشاطر بنجلاديش في المرتبة الأولى في أعلى معدلات فساد في العالم)، وتعاني من عدم استقرار سياسي داخلي وتوتر على الحدود مع السودان، ونظام حكم يوصف بأنه ديكتاتوري (يتولى رئيس تشاد الحكم منذ عام 1990، وقد أجرى تعديل على الدستور يلغي فقرة تحديد رئاسة الدولة بفترتين حتى يتمكن من مواصلة حكم تشاد، وهو ما تحقق له بإعادة انتخابه في منتصف هذا العام). فهل البترول في ظل هذه المعطيات يعد نعمة أم نقمة على هذه البلاد؟ هذا ما سنتناوله في هذه السطور بعد إلقاء الضوء على المؤشرات العامة للاقتصاد هناك.
يوضح التقرير الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لعام 2004 عن التنمية البشرية، صورة عامة للاقتصاد في تشاد؛ حيث تصل نسبة الأمية بين البالغين (15 سنة وما فوق) لنحو 54.2% من السكان، ويبلغ عدد سكان تشاد 8.3 ملايين نسمة في عام 2002، ويتوقع أن يصل عدد السكان في عام 2015 لنحو 12.1 مليون نسمة. ولا يحصل 73% من السكان على المياه النقية الصالحة للشرب، ويفتقد نحو 71% من السكان لمرفق الصرف الصحي الآمن، كما أن الناتج المحلى الإجمالي في عام 2002 بلغ ملياري دولار، يصل نصيب الفرد منه 240 دولارا أمريكيا، وكان متوسط معدل النمو للناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1990 –2002 بالسالب بمقدار 0.5%.
لذلك يصل معدل الفقر بين السكان لنحو 64% يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولارين في اليوم، ولكن هناك بعض التقديرات تشير لتحسن الناتج المحلى الإجمالي بعد الشروع في تنفيذ خط أنابيب نقل البترول والبدء في تصديره؛ حيث قدر معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004 بـ31% مقارنة بـ 9.7% في عام 2003.
كما تمثل المساعدات الدولية الرسمية لتشاد نحو 11.6% من ناتجها المحلى الإجمالي حسب تقديرات عام 2002 بما يعادل نحو 233 مليون دولار سنويا. وحسب تقديرات مؤشر التنمية البشرية العالمي تحتل تشاد مرتبة متدنية بين 177 دولة شملها المؤشر؛ إذ أتت في المرتبة 167.
وبالإضافة إلى مشكلات تشاد الاقتصادية تأتى قضية اللاجئين السودانيين الذين يقدر عددهم بنحو 200 ألف لتزيد من أعباء الاقتصاد في تشاد؛ وهو ما جعلها تطلب المساعدات من المؤسسات الدولية لمواجهة تكاليف معيشة هؤلاء اللاجئين، وخاصة أن معسكراتهم تعاني من حالة اضطراب فيما بينهم تستدعى تواجدا أمنيا مستمرا.
السنــة الصادرات الواردات العجز التجاري
1997 236.7 333.6 96.9
1998 261.8 356.3 94.5
1999 243 315.9 72.9
2000 182.9 315.2 132.3
2001 188.7 678.6 489.9
2002 184.6 1645 1460.4
ومن خلال البيانات الواردة في هذا الجدول نجد أن العجز في الميزان التجاري يزداد منذ عام 2000 بمعدلات عالية تعكس ضعف الإمكانيات الاقتصادية في تشاد، التي يعتمد اقتصادها بشكل رئيسي على الزراعة وبعض الصناعات التقليدية البسيطة.
في أواخر شهر أغسطس الحالي صدر قرار رئاسي في تشاد بطرد شركة بترول أمريكية وأخرى ماليزية من الكونسورتيوم الذي يقوم بعمليات الإنتاج للبترول هناك، وأعلنت الحكومة عن إنشاء شركة وطنية تقوم على أمر إنتاج البترول هناك. وقد أثار القرار العديد من التساؤلات، منها: هل القرار من أجل الحد من أطماع الشركات المنتجة كما حدث في فلاديفيا في أمريكا اللاتينية منذ أشهر، أم أن القرار أتى ليفسح المجال لشركات منافسة أخرى من الصين أم هو التخلص من التزامات الحكومة التشادية مع البنك الدولي الذي وقع اتفاقا مع تشاد بموجبه تم بدء العمل في خط أنابيب البترول عبر الكاميرون لتصدير البترول؟.
تشير البيانات المتاحة بموقع البنك الدولي إلى أن الاتفاق مع البنك الدولي هو السبب الأساسي وراء قرار رئيس تشاد بطرد الشركتين المنتجتين؛ حيث إن الاتفاق الذي وقع مع البنك الدولي يلزم حكومة تشاد بإنفاق 85% من عوائد وأرباح البترول على مشروعات من شأنها تخفيف حدة الفقر في مجالات البنية الأساسية والتعليم والصحة، و5% لتنمية المناطق المحيطة بحقول إنتاج البترول، و10% تودع في صندوق خاص من أجل الأجيال القادمة. كما يتضمن هذا الاتفاق وجود هيئة مشرفة على تنفيذ الاتفاق مكونة من البرلمان والحكومة والمحكمة العليا ومؤسسات المجتمع المدني. ويوفر هذا الاتفاق 80 مليون دولار سنويا لخزانة الدولة في تشاد على مدار الـ 25 سنة القادمة، من خلال حصول تشاد على ما يعادل 50% من عوائد إنتاجها من البترول وتحصل الشركات المنتجة على 50% أيضا.
ولكن الحكومة في تشاد دأبت منذ بداية إنتاج النفط على مخالفة هذا الاتفاق، والذي صدر بموجب قانون من البرلمان في تشاد بحيث يتم إلغاء ما يتم تخصيصه لصالح الأجيال المقبلة وضمه للميزانية الحكومية (بلغ رصيد هذا الصندوق في يونيو 2005 نحو 20.5 مليون دولار)، وهو ما تم بموجب تعديل على التشريع الأساسي، ومن هنا اتخذ البنك الدولي قرارا بتجميد القروض المقدمة لحكومة تشاد، وأيضا تجميد نصيبها من عوائد البترول لدى الشركات المنتجة، وانتهت المحادثات إلى تخصيص ما يعادل 70% على التنمية، وتفويض الحكومة في تشاد في ضم 30% إلى الميزانية الحكومية. ولكن هذا لم يمنع الرئيس التشادي من اتخاذ قراره الذي يعتمد بشكل أساسي على حرية بلاده في التصرف في عوائد البترول، خاصة فيما يتعلق بشراء الأسلحة بعد محاولات حركات التمرد هناك بإحداث انقلاب عسكري في مايو الماضي.
لا شك أن المتعارف عليه في الاتفاقيات التجارية الدولية هو أن الاتفاقيات تصاغ لصالح الأقوى، ويحفل تاريخ شركات البترول بسلوكها الاحتكاري واستنزاف ثروات البلدان النامية التي توافر لديها هذا الخام الهام، ولا شك أن تشاد قبلت هذا الاتفاق مع البنك الدولي باعتباره حلا وحيدا لفقدانها التمويل الذاتي أو من جهة أخرى لتمويل مشروع إنتاج النفط بها، نظرا لنظامها غير الديمقراطي وشيوع الفساد داخل مؤسساتها الحكومية، كما فرضت الأزمة السياسية هناك نفسها على سلوك النظام الحاكم باستنزاف موارد البلاد في عمليات التسليح ضد متمردي الشمال، فمع وصول أول مبلغ من عوائد البترول ليد الحكومة في تشاد تم توجيهه لشراء أسلحة بمبلغ 4.5 ملايين دولار، وكان هذا المبلغ قد تم دفعه لمنحة توقيع من قبل الشركات المنتجة.
كما أن تصريحات المسئولين في تشاد تضاربت حول سلوكها تجاه التفلت من اتفاق البنك الدولي بين من يدعي أن تكون للحكومة الحرية في التصرف في عوائد النفط بما يخدم مشروعات التنمية، وبين من أعلن صراحة عن أهمية توجيه هذه الأموال للتسلح من أجل مواجهة حركة التمرد، ومواجهة حكومة السودان التي تدعم المتمردين، على حد زعمهم.
ومن الجدير بالذكر أن عدد القوات المسلحة هناك نحو 30 ألفا، وذلك حسب تقديرات عام 1994، وأن حجم الإنفاق على التسليح يصل إلى 8 ملايين دولار لنفس العام أيضا. ومن هنا نستطيع القول بأن اتجاه الحكومة هناك بإلغاء مخصصات صندوق الأجيال القادمة، والتوسع في الإنفاق على التسلح، وغياب وسائل الشفافية في الإنفاق الحكومي، وزيادة دائرة الفساد، والنظام غير الديمقراطي، كل هذا يجعل عوائد البترول على ضآلتها لا تكون في صالح الفقراء والمعدمين من أبناء تشاد. ويجب ألا يفهم القرار الرئاسي على أنه قرار ثوري.