رفعت مظاهرات إيران المستمرة منذ أيام، والتي لم يتضح الموقف بشأنها بعد، لافتات اقتصادية، تمثلت في الشكوى من ارتفاع معدلات البطالة وغلاء الأسعار، وأن المواطن لم يشعر بعوائد إيجابية لرفع العقوبات منذ بداية يناير/كانون الثاني 2017، بعد توقيع اتفاق بشأن برنامج إيران النووي فيما يعرف باتفاق (5+1).
وثمة أمر آخر جاء على قائمة شكوى المتظاهرين، يتمثل في إنفاق إيران على الحروب في اليمن وسورية ولبنان والعراق، وأن هذا الأمر بدوره كان له عائد سلبي على مستويات معيشة المواطن، لكن استمرار التظاهرات في حد ذاته له تكلفة سلبية على الأداء الاقتصادي، وتزداد التكلفة السلبية للتظاهرات من خلال العنف الذي شابها والمواجهات الأمنية مع المتظاهرين، حيث سقط قتلى، ومصابون، وتعرضت ممتلكات خاصة وعامة لعمليات حرق وإتلاف.
والمفترض بعدما شهدت إيران انتخابات رئاسية اتسمت بالنزاهة في منتصف 2017، أن يكون لديها إدارة مختلفة في التعامل مع المتظاهرين، تتناسب مع حرية التعبير، خاصة أن مطالب المتظاهرين لها جانب كبير من الواقع، حيث ارتفعت تكاليف الغذاء بنسبة تصل إلى 30% خلال الأيام القليلة الماضية، فضلًا عن أن برنامج الموازنة العامة للدولة والذي كان يناقش في البرلمان قبل انطلاق المظاهرات بأيام قليلة يتضمن رفع الدعم عن الوقود بنسب ليست قليلة، وهو ما فجر غضب المتظاهرين هناك.
على ما يبدو أن النظام الإيراني لم يستوعب الدرس من الربيع العربي، وظن أنه بمأمن من تكرار السيناريو العربي، رغم أن الأسباب الدافعة للأحداث واحدة، وهي المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ترهق المواطن، وتوسع من شريحة الفقراء، وتقلص الطبقة الوسطى، وكذلك وجود منتفعين من المقربين من السلطة تزداد ثرواتهم بشكل كبير.
لكن الملاحظ أن النظام الإيراني يستعمل نفس أدوات النظم العربية الديكتاتورية من المواجهات العنيفة مع المتظاهرين، ورميهم بالعمالة والخيانة، واعتقال أعداد كبيرة منهم، بدلًا من الحوار معهم، والوصول لمحاور اتفاق.
والمظاهرات باعتبارها من أدوات التعبير عن الرأي، سمة من سمات المجتمعات الديمقراطية، ما لم تتجه لاستخدام العنف، أو أن تستخدم الحكومات العنف لقمعها، لأن دخول العنف يحول المظاهرات إلى أداة هدم، ولا يعني هذا أن المتظاهرين يهدفون لإحداث الشغب أو التخريب، ولكن لأن ما يسفر عنه العنف يؤثر على الأداء الاقتصادي، وفي الحالة الإيرانية يمكننا الإشارة إلى بعض مظاهر تكلفة المظاهرات على الاقتصاد.
- لا شك أن هناك تكلفة مباشرة لاستمرار التظاهرات، تتمثل في ضياع ساعات العمل للمتظاهرين، واستمرار حالة الـتأهب والمواجهة لدى المؤسسات الأمنية، خاصة أن نطاق التظاهرات قد يتسع جغرافيًا مع الوقت، وهو ما يعني مزيداً من إهدار الموارد الاقتصادية، البشرية والمالية.
والناتج المحلي الإجمالي لإيران بلغ بنهاية 2016 نحو 418 مليار دولار حسب إحصاءات قاعدة بيانات البنك الدولي، أي أن نصيب اليوم الواحد من إجمالي الناتج السنوي يقدر بنحو 1.14 مليار دولار. مع الأخذ في الاعتبار أن المظاهرات لم تقترب من منشآت النفط التي تساهم بنصيب وافر من الناتج.
كما أن المظاهرات لم توقف النشاط الاقتصادي بشكل كامل، لكن لنا أن نتخيل ما يمكن أن تسهم به المظاهرات من آثار سلبية على الاقتصاد منذ انطلاقها في 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أي أكثر من 10 أيام، فإذا سلمنا بأن إجمالي التأثير السلبي لـ 10 من المظاهرات يعادل توقف يوم كامل للنشاط الاقتصادي في إيران، فإننا بصدد تقدير يصل إلى ما يزيد عن مليار دولار بشكل تقديري ومبدئي.
- سوف تعكس المظاهرات، وما تؤول إليه من نتائج إن آجلًا أو عاجلًا إلى ضبابية الصورة المستقبلية للاستثمار في إيران، حيث لا يزال الخطاب السياسي لحكومة روحاني الانفتاح على العالم الخارجي والسعي لاستقطاب استثمارات أجنبية مباشرة، وبخاصة في مجال النفط، حيث صرح أكثر من مسئول برغبة بلاده باستقدام استثمارات أجنبية في مجال النفط، بسبب تقادم الحقول، والعدد والآلات المستخدمة، وتقدر الاستثمارات اللازمة لقطاع النفط بإيران خلال السنوات الخمس القادمة بنحو 200 مليار دولار، في حين لم تنجح جهود حكومة روحاني إلا في جذب ما قيمته 12 مليار دولار فقط منذ توقيعها على اتفاق البرنامج النووي مع أميركا وأوروبا.
- ثمة خسائر نالت الممتلكات العامة والخاصة، فضلًا عن الأرواح والمصابين، جراء المواجهات التي جرت، ولاتزال، وبلا شك أن تعويض هذه الخسائر لتعود الممتلكات على ما كانت عليه وبخاصة الممتلكات العينية، ستتحمله الحكومة وكذلك القطاع العائلي ومجتمع الأعمال، وسوف تعطل هذه التعويضات تقدم الاقتصاد الإيراني وبخاصة في القطاع غير النفطي، وكانت الفرصة البديلة أن تضخ هذه الأموال من قبل الدولة في برامج الحماية الاجتماعي، ومن قبل القطاع العائلي ومجتمع الأعمال في النشاط التجاري والاقتصادي.
وفي ظل السيناريوهات المفتوحة لما يجري في إيران، فإن التكلفة الاقتصادية سوف تحدد على طبيعة الأدوات التي يستخدمها النظام لفض المظاهرات، والمدى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه الحكومة في التعامل مع المتظاهرين، حوارًا أو قمعًا.
اختارت حكومة روحاني المواجهة العنيفة مع المتظاهرين، رغم أن مطالبهم معتبرة ويشعر بها الجميع، فعوائد النفط لم ينعموا بها بعد، على الرغم من صبرهم لعقود، فهم يعانون من بطالة فاقت نسبة 12%، وعبر مواطنون لوسائل إعلام أجنبية بأن وقع البطالة أكبر بكثير من الأرقام المعلنة من الحكومة، والتي تصدق عليها المؤسسات الدولية.
كما أن توسع إيران في إنفاقها على الحروب والنزاعات في أكثر من دولة بالمنطقة العربية، خلف آثارا سلبية لدى شريحة كبيرة من المواطنين، وكشأن كثير من الدول النامية، فإن نسبة كبيرة من الوظائف القائمة بالسوق الإيراني هشة، وتغلب على الوظائف الحكومية البطالة المقنعة، وهو ما أكد على فقر الحكومة في امتلاكها لرؤية وخطة تنمية بإمكانها انتزاع الشعب الإيراني من البطالة والتضخم.
نعم هناك مسارات نظامية وقانونية للتعبير عن الرأي عبر المؤسسات المنتخبة، ولكن الانتخابات في إيران يمكن وصفها بأنها نزيهة إلا أنها ليست حرة، بسبب الوصاية الموجودة هناك لعلماء الدين، وعلى ما يبدو فإن المتظاهرين فقدوا الأمل في الإصلاح من خلال المؤسسات المنتخبة، وعبروا عن مطالبهم عبر المظاهرات.
والمعالجة التي كانت تناسب التعامل الإيجابي مع المظاهرات، وكان من شأنها أن تبعد إيران عن دفع فاتورة اقتصادية كبيرة، هي استيعاب هؤلاء المتظاهرين من خلال تعامل مباشر مع ممثليهم، وعرض إمكانات الحكومة عليهم، مشاركتهم في اتخاذ القرار.
وليس ذلك من قبيل الترضية، ولكن عبر الشفافية فيما يتعلق بالتصرف في عوائد النفط، وحجم الإنفاق على الحروب في الدول العربية، والتوجه المستقبلي للحكومة لتخفيف حدة مشكلات البطالة والتضخم، وعدم الانسياق خلف أجندة صندوق النقد الدولي التي تهمل الأبعاد الاجتماعية لخطط ما تراه إصلاحًا اقتصاديًا.
إن حسم العديد من ملفات الفساد في دوائر الحكم، وإقالة بعض المسؤولين، وتجديد الدماء في الجهاز البيروقراطي الحكومي، من شأنه أن يمثل علامات رضا من قبل المتظاهرين، ويقيم جسور التعاون الإيجابي بينهم وبين الحكومة.