كما كان متوقعًا صدر قرار ترامب بالانسحاب من اتفاق البرنامج النووي الإيراني المعروف بـ(5+1)، والملاحظ أن جزءًا كبيرًا مما وعد به ترامب أثناء حملته الانتخابية فُعل على أرض الواقع، فعلى الصعيد الداخلي تم رفع سعر الفائدة وتخفيض الضرائب، وإلغاء برنامج الرعاية الصحية. وعلى الصعيد الخارجي تم تفعيل قرار نقل السفارة الأميركية للقدس، وإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة النظر في العلاقات التجارية الخارجية لأميركا.
ويأتي القرار الأميركي هذه المرة ضد إيران وسط تخلي معظم الدول الأوروبية والدول الصاعدة عن مساندة أميركا، بخلاف ما تم في عام 2012، حيث ساند الاتحاد الأوروبي توجهات أوباما بقوة، ولم تنفرج أزمة العقوبات الاقتصادية على إيران إلا بعد نجاح اتفاق (5+1)، ودخوله حيز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني 2017.
وطالب جون بولتون مستشار ترامب لشؤون الأمن القومي الشركاء التجاريين لإيران بوقف تعاملاتهم التجارية معها، وحدد 5 دول على وجه التحديد، هي (روسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، والمانيا)، لكن تتناسى أميركا أنها تناصب الجميع العداء، فما زالت خلافاتها التجارية مع الصين قائمة وتزداد صعوبة يومًا بعد يوم، ونالت الخلافات التجارية لأميركا الاتحاد الأوروبي واليابان، وبذلك تخسر أميركا مساندة حلفائها الطبيعيين في أوروبا واليابان، وكانت اليابان قد رفضت القرار الأميركي بالخروج من الاتفاق النووي مع إيران، ورأت أن بقاء الاتفاق يساعد على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
حسب البيانات المنشورة على موقع المفوضية الأوروبية، فإن حجم التبادل التجاري لإيران مع العالم بلغ 122 مليار يورو في 2017، مقابل 97 مليار يورو في عام 2016، وهو ما يعكس التحسن الذي جنته إيران وشركاؤها التجاريون من الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية في بداية 2017. فقد زاد التبادل التجاري لإيران بعد رفع العقوبات الاقتصادية بنحو 25 مليار يورو.
وبالاطلاع على بيانات الشركاء الـ 10 الكبار تجاريًا مع إيران، نجد أنه من الطبيعي أن ترفض هذه الدول القرار الأميركي، فالصين تأتي في المرتبة الأولى بقيمة تبادل تجاري بنحو 23.8 مليار يورو، تليها الإمارات بـ 20.4 مليار يورو، ثم الاتحاد الأوروبي 19.9 مليار يورو، والهند 9.8 مليارات يورو، وتركيا 9.1 مليارات يورو، وكوريا الجنوبية 9 مليارات يورو، واليابان 3.6 مليارات يورو، وسويسرا 2.1 مليار يورو، وروسيا 1.9 مليار يورو، وسنغافورة 1.3 مليار يورو.
لقد قفز حجم التبادل التجاري بين إيران والاتحاد الأوروبي من 13.7 مليار يورو في 2016 إلى 19.9 مليار في 2017، ولذلك سيكون موقف كل من المانيا وفرنسا معارضًا للتوجهات الأميركية تجاه إيران تجاريًا، وبخاصة أن الاتحاد الأوروبي يرغب في استمرار انتعاشة اقتصاديات دوله وخروجها من التداعيات السلبية للأزمة المالية التي مرت بها بعد 2010.
وعلى الرغم من هذه القفزة الكبيرة في التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإيران في 2017 مقارنة بـ 2016، نجد أن الواردات الإيرانية من الاتحاد الأوروبي تجعلها في المرتبة 33 بين البلدان المستوردة من الاتحاد، وبنسبة تصل إلى 0.5% من إجمالي واردات الاتحاد. وكذلك تحتل إيران المرتبة 30 في قائمة الدول المستقبلة لصادرات الاتحاد الأوروبي، وبما يمثل 0.6% من إجمالي صادرات الاتحاد.
وهناك مصالح أخرى لدول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول الصاعدة، تتمثل في تبادل استثمارات، وحصول هذه الدول على تعاقدات لتطوير حقول النفط والغاز الإيرانية، واستيراد عدد وآلات ووسائل نقل، على رأسها الطائرات المدنية.
على مدار الأشهر القليلة الماضية مرت السوق الإيرانية بتقلبات عنيفة في سعر الصرف، أربكت الإدارة النقدية هناك، حيث أثرت على توجهات أصحاب المدخرات بسعيهم لتحويل مدخراتهم للدولار، وهو ما دعا الحكومة الإيرانية لتحويل كافة تعاملاتها لليورو، وساعد ذلك على تخفيف حدة أزمة سعر الصرف في السوق الإيرانية إلى حد ما.
وجاء التصرف الإيراني ليتفادى سيطرة السلطات المالية الأميركية على حركة تعاملات إيران الدولية، وكذلك كنوع من الضغط غير المباشر على أميركا، بالمساهمة في الحركة الداعية لعدم سيطرة الدولار على حركة التسويات المالية العالمية.
لكن أميركا أعلنت أن عودة العقوبات الاقتصادية على إيران ستستغرق مدة تتراوح بين 90 – 180 يومًا، ولذلك دعت أميركا شركاء إيران التجاريين إلى وقف تعاملاتهم مع إيران. ويمكن أن تتفادى إيران وشركاؤها التجاريون التعامل بالدولار، بل قد تصل الأمور في بعض الأحيان لتوسيط العملات المحلية، أو استمرار إيران بتبني سياسة التخلي عن الدولار، والتوجه إلى عملات أخرى بجوار اليورو، كاليوان الصيني، وهي ورقة تمكنها من توطيد علاقاتها بالصين.
لكن المخاطر المنتظرة في ظل إدارة ترامب، أن يتم توسع دائرة العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، لتنال الشركات المتعاملة معها، وهذه الشركات بطبيعة الحال يمثل الدولار جزءا لا يستهان به من تعاملاتها، وفي الوقت الذي يمكن أن تسعى فيه أميركا من خلال سيطرتها على النظام المالي العالمي لمعاقبة إيران والشركات المتعاملة معها مستقبلًا، أن يتحول ذلك إلى أداة سلبية ضد أميركا بتحول هذه الشركات بالكلية لتسوية كافة تعاملاتها المالية والتجارية بعملات أخرى كاليورو واليوان.
أدى قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي إلى ارتفاع أسعار النفط في الأسواق الدولية، ومن شأن تصعيد أميركا في عقوباتها الاقتصادية على إيران، أن تشهد سوق النفط المزيد من الارتفاعات.
أسعار النفط تكسر حاجز 77 دولاراً
وارتفاع النفط يضر باقتصاديات الدول المستوردة له، وبخاصة الدول الصاعدة، وفي إطار سيناريو ارتفاع اسعار النفط، سوف تعود إيران إلى ممارسة سياساتها القديمة المعروفة بـ "النفط الرخيص"، حيث تداعب مصالح الدول الصاعدة بعرض النفط بأسعار أقل بنحو 5 أو 10 دولارات عن السعر العالمي، وهو ما يجعل كلاً من الصين والهند أن تطلب استثناءها من العقوبات الاقتصادية على إيران، وبخاصة في مجال النفط، وتشاركهما في هذا السلوك تركيا، التي تعد مستوردا صافيا للنفط.
وتحقق سياسة النفط الرخيص لإيران أكثر من ميزة، أولها كسر حصار العقوبات الاقتصادية عليها، والحفاظ على وجود حلفاء لها في مواجهة أميركا على الساحة الدولية، وكذلك التحول إلى ما يعرف بالصفقات المتكافئة، حيث تحصل على احتياجاتها في شكل سلع وخدمات من الدول التي تحظى بعرض النفط الرخيص، وبما يخفف عن الاقتصاد الإيراني، مهمة تدبير عملات صعبة، أو الدخول في دوامة سيطرة أميركا على النظام المالي العالمي.
وفي كل الأحوال، سوف تتضرر إيران من قرار ترامب، وبخاصة على الصعيد الداخلي، وتراجع أحلام تطوير البنية الأساسية لقطاعات كثيرة، وكذلك عودة العزلة الدولية، وبخاصة في مجال الخدمات، ولن يغير الوضع الحالي من وضع إيران التي ستكون في موقف الدفاع، واستدعاء خبراتها في مواجهة العقوبات الاقتصادية، لكن على كل حال ستكون في وضع أفضل مما كان عليه الحال خلال الفترة 2012 - 2016، فالاتحاد الأوروبي وكذلك الدول الصاعدة أعلنت رفضها للقرار الأميركي والحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع إيران.