منذ نهاية السبعينيات والعلاقات المصرية الإيرانية بشكل عام تعاني من حالة جمود، نظرًا لاختلاف التوجهات السياسية للبلدين، إلا أنه لوحظ وجود محادثات بين البلدين بعد ثورة 25 يناير، وبخاصة بعد مجيئ، محمد مرسي رئيسًا لمصر، فتمت محادثات على الجانب الاقتصادي، أدت إلى عودة السياحة الإيرانية لمصر.
إلا أن الأمر لم يخلو من مناوشات سياسية داخل مصر عبر اعتراضات الأحزاب السياسية المصرية ذات التوجه السلفي على التقارب المصرى الايرانى، كما لم يمر الأمر مرور الكرام على القوى الدولية والإقليمية، التي اعتادت أن تكون مصر رهن إشاراتها في هذا الملف، ولكن على ما يبدو فأن السياسة الخارجية المصرية تريد أن تحدث توازنًا في علاقاتها الخارجية مع جمع القوى العالمية والإقليمية.
ولعل الملف الاقتصادي كان البوابة السريعة لتفعيل السياسة الجديدة لمصر في عودة علاقتها بإيران، فالسياحة ليست القطاع الوحيد، فهناك استثمارات إيرانية في مصر منذ السبعينيات والمتمثلة في القطاع المصرفي عبر بنك مصر إيران للتنمية، أو الشركة المصرية الإيرانية للنسيج. كما تم الحديث مؤخرًا ، وقبل تفعيل الأفواج السياحية ، عن إمكانية حصول مصر على وديعة إيرانية تودع بالبنك المركزي المصري وتضاف للاحتياطى الاجنبى على غرار الودائع العربية، أو حتى دخول استثمارات إيرانية في مصر.
فما هي السيناريوهات المحتملة لتطور العلاقات الاقتصادية المصرية الإيرانية؟، هل ستظل عند هذا الحد من تدفق سياحي، وجمود في باقي القطاعات الاقتصادية؟.
هل ستسارع القوى المناهضة لإيران بتقديم بديل اقتصادي يساعد مصر على تحقيق طموحها الاقتصادي في الأجل الطويل والخروج من أزمتها الاقتصادية الحالية في الأجل القصير؟.
من الصعوبة بمكان أن تقرأ العلاقات الاقتصادية بين مصر وإيران بمنأى عن العلاقات السياسية، وعلى الرغم من الخلاف السياسي فإننا نجد في بعض الحالات وجود معاملات تجارية واقتصادية نشطة، ولعل حالة العلاقات الإيرانية الإمارتية خير دليل، فعلى الرغم من التنديد الدولي من قبل الإمارات بقيام إيران باحتلال بعض الجزر الإماراتية، إلا أن الإمارات تعد من أكبر الشركاء التجاريين لإيران.
العلاقات التجارية والاقتصادية
من الطبيعي أن يكون حجم العلاقات التجارية والاقتصادية متواضعًا خلال الفترة الماضية، بسبب فتور العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فمعظم الشركات الإيرانية الموجودة في مصر وجدت في فترة ما قبل 1980، ومن أبرزها بنك مصر إيران الذي يبلغ رأس ماله المدفوع نحو 200 مليون دولار، وتمتلك مصر فيه نحو 60 % من رأس المال، وكذلك استثمارات متنوعة في مجالات أخرى تبلغ نحو 331 مليون دولار من خلال نحو 12 شركة.
إلا أن الحديث يدور مؤخرًا حول رغبة الجانب الإيراني في الدخول باستثمارات جديدة في مجال صناعة السيارات والتنقيب عن البترول وصناعة البتروكيماويات، وهي استثمارات تختلف عن طبيعة استثمارات الدول الخليجية التي ركزت على التوجه نحو الاستثمارات العقارية والسياحية.
وحسب بيانات هيئة الرقابة على الصادرات والواردات المصرية عن عام 2012، فإن الصادرات بلغت نحو 59.5 مليون دولار، مقابل 83.5 مليون دولار في عام 2011، أي أن الصادرات المصرية تراجعت بنحو 13 مليون دولار، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران. ومن الطبيعي أن تتراجع هذه الصادرات، وبخاصة أنها سلع نباتية زيتية وطبية وفواكه، وهي بطبيعتها غير مؤثرة على سلم الأولويات في دولة تمر بنفس الظروف التي تمر بها إيران.
إلا أن الواردات المصرية من إيران وصلت في نفس العام إلى 8.7 مليون دولار، مقارنة بنحو 5.7 مليون دولار في عام 2011، أي أن الواردات المصرية شهدت زيادة مقدارها نحو 3 مليون دولار.
ويلفت النظر في هذه البيانات تواضعها الشديد، فحجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2012 لم يتجاوز نحو 69 مليون دولار، وهي أرقام تناسب الشركات، ولا تناسب علاقات تجارية بين دولتين بحجم إيران ومصر، كدولتين إقليميتين.
مستقبل العلاقات
يمكننا أن نستنتج مستقبل العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدولتين في ضوء قراءة بعض المحددات لهذه العلاقة، سواء فيما يتعلق بإمكانيات وظروف الدولتين، أو المعطيات الإقليمية والدولية المحيطة بهما، وفيما يلي نشير إلى هذه المحددات.
* يمثل التوجه الإيراني لزيادة حجم تعاملاته التجارية والاقتصادية مع مصر، مخرجًا لإيران من عزلتها الدولية والإقليمية، وبخاصة أن إيران دولة نفطية، ولديها فوائض نفطية قد تمكنها من ضخ استثمارات جديدة في مصر، وقد يساعد إيران على هذا التوجه خبراتها السابقة بالسوق المصري، ورغبتها الملحة في التواجد بهذ السوق الضخم، الذي يمتلك كثافة سكانية عالية، فضلًا عن تمتع مصر بالاشتراك في أكثر من اتفاقية إقليمية، يمكنها أن تفتح الباب أمام المنتجات الإيرانية ذات المنشأ المصري من الدخول إلى الأسواق العربية والأفريقية والأوروبية.
* التوجه المصري بفتح باب العلاقات مع إيران بشكل عام، وفي الجانب الاقتصادي بشكل خاص، أتى ليفك ذلك الحصار غير المعلن من قبل بعض الدول الخليجية وأمريكا وأوروبا، حيث وعدت هذه الدول بمساعدة مصر بعد ثورتها بمبالغ طائلة، ولكن أيًا منها لم يدخل إلى حيز التنفيذ، وأعلن صراحة بأن هذه المساعدات مشروطة بقبول مصر بتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وهذا التوجه قد يجعل هذه الدول تعيد حساباتها مع مصر، وتخفف من حصارها الاقتصادي المتمثل في إيقاف المنح والمساعدات، أو ضخ استثمارات جديدة في شريان الاقتصاد المصري، وتسهيل حصول مصر عل قرض صندوق النقد الدولي.
* ومن المتوقع أن تحافظ مصر على تلك العلاقة مع إيران، لتكون ورقة ضغط دائمة في وجه ممارسة أية ضغوط عليها في الملفين الاقتصادي والسياسي، إلا أن هناك ما يعكر صفو هذه العلاقة، وهو موقف البلدين من الأزمة السورية، حيث تساند إيران نظام الأسد بكل ما أوتيت من قوة، بينما تتمنى مصر زوال نظامه في أسرع وقت، وقد استقبلت مصر المهاجرين السوريين والذين يتمتعون بكافة الخدمات والحقوق التي يتمتع بها المصريون.
* العلاقات الاقتصادية التي تبنى على استفادة طرف واحد، عادة ما تكون قصيرة الأجل، وهو ما يفرض على البلدين أن تكون هناك مصالح متبادلة، وأن يكون هناك توازن في العلاقات التجارية والاستثمارية، وأن تكون الاستثمارات تمثل احتياجات حقيقية للدولتين. فقد يسمح انفتاح مصر على العالم بأن يتيح العديد من السلع التي يفتقد إليها السوق الإيراني، كما أن إيران سوف تستفيد من دخول العديد من الأسواق الإقليمية عبر الاتفاقيات المتعلقة بهذا المجال.
* قد يعوق العلاقات بين البلدين، بعض الشيء، هذا التوجه من قبل الأحزاب السياسية السلفية، والتي قامت خلال الأيام الماضية بالتظاهر وتسلق أسوار الممثل المقيم الإيراني في مصر، اعتراضًا على بدء تفعيل السياحة الإيرانية لمصر، وتخشى هذه الأحزاب من أن تستغل إيران النشاط الاقتصادي في ممارسة نشر المذهب الشيعي في مصر.
وفي هذا الصدد يمكن تصور قيام هذه الأحزاب بتبني حملات مقاطعة للمنتجات الإيرانية، بدعوى خطورة تمدد المذهب الشيعي على مذهب أهل السنة في مصر. ويتوقف هذا الأمر على مدى قوة هذه الأحزاب في التأثير على الرأي العام.
ويمكن لإيران أن تفوت هذه الفرصة على تلك الأحزاب من خلال إقامة مشروعاتها عبر مشاركات مع مصريين، وأن يكون التمثيل الإيراني في الإدارة العليا، وأن تمارس الشركات دورها الاقتصادي والاستثماري بعيدًا عن البعد الأيد لوجي الذي يمثل عقبة في العلاقة بين البلدين عند البعض.
* إذا كانت مصر قد نجحت في إدارة ملف علاقتها مع إيران من خلال البدء بالملف الاقتصادي فعليها أن تقوم بعمل مقارنة بين المكاسب المتوقع تحقيقها من هذه العلاقة، وبين التحديات التي يمكن أن تعرض عليها، ويمكن أن تستفيد مصر من تجربة تركيا في هذا الخصوص، إذ استطاعت أن تزيد من أفق التعاملات الاقتصادية مع إيران، والحصول على الغاز والنفط الإيراني بأسعار مميزة، وأن تدخل الصادرات التركية لإيران، ولكن في إطار من التوازن مع بقية الأطراف الدولية.
* يمثل التعاون بين البلدين واحدة من الرسائل المهمة لإسرائيل، ففي الوقت الذي تتراجع فيه العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل بعد الثورة، نجد العلاقات الاقتصادية تعود مع إيران، وهو الأمر الذي قد يزيد من حجم التحديات على مصر خلال المرحلة المقبلة.
لكن تبقى السياسة هي السياسة، لا تعرف الخصام الدائم، ولا المصالحة الدائمة، ولكن اينما وجدت المصلحة وجدت العلاقات الدولية، ولكن لابد أن نأخذ في الاعتبار طبيعة العلاقة بين دولتين تمثلان أهم قوتين إقليميتين بالمنطقة، وخلفيتهما الإسلامية، وما تحتمه عليهما من أواصر التعاون.