رحل الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني الذي شهدت ولايته الأولى الوصول لإتفاق برفع العقوبات الاقتصادية وإبرام إتفاق “5+1” حول البرنامج النووي الإيراني في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، شهدت ولاية روحاني الثانية أيضًا، تجميد الإتفاق وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية في عام 2018 في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ومع قدوم إدارة أمريكية جديدة برئاسة جو بايدن، تم إحياء المفاوضات مرّة أخرى بين إيران من جهة، وبلدان أوروبية وأمريكا من جهة أخرى. وفي نفس الوقت، أتت الإنتخابات الإيرانية في يونيو 2021، برئيس جديد على رأس السلطة، وهو إبراهيم رئيسي الذي يرغب، بالتوازي مع رغبة الدولة، برفع العقوبات الاقتصادية والوصول لإتفاق جديد حول البرنامج النووي.
تشهد فيينا حاليًا مفاوضات مستمرة بين الجانبين، وبحسب الأنباء التي تتناقلها وسائل الإعلام حول نتائج هذه المفاوضات، ما بين الإيجابية منها والسلبية، تبدو المحصلة النهائية تتجه نحو رغبة الجانبين في التّوصل لإتفاق، بغض النظر عن شروط كل طرف، والتي قد تعطي في بعض الأحيان انطباعًا بصعوبة المفاوضات أو ربما فشلها. ولكن المتابع للدبلوماسية الإيرانية يعلم أنها تسير في مفاوضاتها بشكلٍ عام وفق إستراتيجية حافة الهاوية، التي تتوج بالنجاح بعد تنازلات غير معلنة، وهو ما يتوقع أن يحدث في مفاوضات فيينا حول برنامجها النووي ورفع العقوبات الاقتصادية.
وتعد قضية الأموال المجمّدة لإيران في مناطق عدّة في العالم بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية، واحدة من القضايا المهمة التي تعوّل إيران عليها. وتقدّر الأموال المجمدة لإيران في عدة دول بنحو 100 إلى 120 مليار دولار إبان التوصل إلى إتفاق “5+1” في عام 2016، وتمّ بالفعل الإفراج عن جزء من هذه الأموال من قبل الولايات المتحدة ودول أخرى وتشير بعض التقديرات أن إيران حصلت على ما يقدّر بنحو 54 مليار دولار سواء من خلال الحصول على جزء من أصل أموالها المجمدة، أو من الفوائد المستحقّة على الأموال، بسبب تجميدها في البنوك.
قرار دونالد ترامب بتجميد اتفاق “5+1” أربك عملية استكمال إيران في الحصول على كافة أموالها المجمّدة، ليس هذا فحسب، بل أربك الوضع الاقتصادي لإيران بشكل عام حيث تمّ فرض عقوبات اقتصادية إضافية، أدّت إلى حدّ صادرات النفط الإيرانية بشكل كبير، وكبلت ما كان يتمّ من تعاملات مالية محدودة مع الجهاز المصرفي في إيران، وهو ما استدعى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف آنذاك إلى التّغريد مطالبًا بالإفراج عن أموال إيران المجمدة لدواعي إنسانية بسبب أزمة جائحة فيروس كورونا في النصف الثاني من عام 2020 حيث يتم توريد أدوية وأغذية لإيران مقابل هذه الأموال.
لم يكن الأمر سهلًا لإيران خلال الفترة من منتصف 2018 حتى نهاية 2020، حيث إجتمعت عليها أضرار العقوبات الاقتصادية وتداعيات أزمة فايروس كورونا التي أربكت الإدارة الاقتصادية للبلاد جراء تغطية التداعيات الطبية والاقتصادية والاجتماعية السلبية للجائحة.
وبحسب صندوق النقد الدولي حول أداء الناتج المحلي الإجمالي لإيران في ظل العقوبات الاقتصادية وجائحة فيروس كورنا، بلغ أداء معدل نمو إقتصاد إيران في عام 2018 سالب 5.4%، وسالب 7.6% في 2019، وسالب 6% في 2020، وبلا شك أن الأوضاع العامة من مؤشرات البطالة والفقر والتضخم، تأثرت بهذه المعدلات المتراجعة لأداء الناتج المحلي الإجمالي.
وكانت تصريحات الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني ذات دلالة عن تلك الآثار السلبية بسبب العقوبات، حيث قال بأنّ بلاده تعاني بسبب العقوبات الاقتصادية من أوضاع صعبة لم تمر بها على مدار الـ 40 سنة الماضية.
بلا شك أن حاجة إيران إلى ما تبقى لها من أموال مجمدة في الخارج ضروريّة للتعامل مع الإحتياجات المالية المتعددة، التي فرضتها عوامل خارجية وداخلية. وإذا ما افترضنا أن ما تبقّى من أموال مجمدة لإيران في الخارج بحدود 40 مليار دولار، فهي كفيلة بأن تحقق سيولة من النقد الأجنبي يخفف بشكل كبير من الضغوط على العملة المحلية، ويخفف كذلك من ظاهرة الدولرة التي شهدتها إيران بشكل كبير منذ إعلان ترامب في 2018 عن تجميد اتفاق “5+1″، وفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية.
مع قدوم إدارة بايدن، تم إتّخاذ مجموعة من الخطوات التي أرسلت إشارات لإيران والعالم بأن بايدن جادّ في تنفيذ ما وعد به في حملته الإنتحابية، بالعودة إلى إتفاق مع إيران حول برنامجها النووي حيث بعثت الإدارة الأمريكية الجديدة لمجلس الأمن، بإلغاء العقوبات الإضافية التي اتخذتها الإدارة السابقة في عهد ترامب، كما حصلت إيران على بعض الأموال المجمدة في كل من كورويا الجنوبية والهند، وما كان ذلك ليتمّ لولا الموافقة غير المعلنة من قبل الولايات المتحدة.
ففي أواخر فبراير 2021، أعلن البنك المركزي الإيراني عن توصّله لإتفاق مع كوريا الجنوبية للإفراج عن جزء من أموالها المجمّدة لدى كوريا، والتي تقدّر بنحو 7 مليارات دولار.
ترتبط إفادة إيران مما تبقى لها في الخارج من أموال مجمدة بنجاح محادثات فيينا حول إتفاق برنامجها النووي، وكلما كان نجاح المفاوضات متحققًا في الأجل القريب، كلما كان ذلك أفضل للاقتصاد الإيراني. وفي حالة نجحت المفاوضات ورفعت العقوبات الاقتصادية عن إيران، فلن تكون عودة الأموال المجمدة لإيران هي الميزة الوحيدة، بل سيكون هناك إفادات أخرى تتمثل في عودة طبيعية للاقتصاد الإيراني وللاقتصاد العالمي، وبخاصة أن إيران لها علاقاتها الممتدة من قبل مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي والهند وغيرهم من دول العالم.
ومن المفيد في هذا الشأن، أن تُرفع القيود عن البنك المركزي الإيراني، والجهاز المصرفي، لتعود المعاملات المالية لوضعها الطبيعي لتسوية التعاملات المادية لإيران بمؤسّساتها المختلفة مع العالم الخارجي.
وإذا كان الإقتصاد الإيراني لا يزال يعتمد على النفط بشكل كبير، إلا أنّ تقرير البنك الدولي الصادر في مطلع 2021، يؤكّد على أنّه إقتصاد متنوّع، يضم إلى ثروته النفطية تَمتُعَهُ بقطاع زراعي جيّد وكذلك القطاع الصناعي وإن كانت الدولة تساهم بجزء كبير من نشاط القطاع الصناعي، ويؤكد تقرير البنك الدولي على أمر مهم، وهو أنّ إيران لديها ثاني أكبر احتياطي مؤكّد من الغاز الطبيعي على مستوى العالم، وكذلك لديها رابع أكبر احتياطي مؤكّد من النفط.
وفي حالة وجود مرحلة إنتقالية لتنفيذ إلتزامات معينة من قبل إيران في برنامجها النووي، وربط الإفراج عن الأموال المجمدة بشكل تدريجي يتناسب مع مراحل تطبيق إلتزام إيران، فإن إفادة إيران ستكون بطيئة في الحصول على الأموال المجمدة ما لم تشترط الحصول عليها بشكل فوري وكامل بعد توقيع إتفاق جديد، وأن تكون المرحلة الإنتقالية تضم إجراءات اقتصادية أخرى، بعيدة عن الأموال المجمدة