امتلاك السلاح النووي هو أحد التحديات التي واجهت العديد من الاقتصاديات النامية، وقد نجحت دول في هذا التحدي، رغم كلفته العالية اقتصادياً وسياسياً، وهناك نماذج كثيرة لذلك، منها الهند وباكستان وقبلهما الصين، وبعدهما إيران. ولكن امتلاك التكنولوجيا النووية لم يكن دليلًا على قوة الأداء الاقتصادي لهذه الدول.
واجهت إيران، على مدار أكثر من ثلاثة عقود، تحدي العقوبات الاقتصادية، إلا أنه منذ عام 2006، زادت حدة العقوبات الاقتصادية، وجعلت من الاقتصاد الإيراني اقتصاداً مغلقاً، وبلا شك أن تحدي مواجهة العقوبات الاقتصادية غيّر من خريطة العرض والطلب، على مستوى الاستهلاك الكلي داخل إيران، وكذلك ضغط العديد من برامج التنمية المتعلقة بالبنية الأساسية، أو تطوير الموارد والإمكانيات الاقتصادية المتاحة.
ومع بداية 2016، خرجت إيران بشروط معينة من وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل أوروبا وأميركا، ما أتاح لها فرصة للانفتاح على الاقتصاد العالمي، ووضعها أمام تحديات جديدة، تتمثل في كيفية تحقيق مشروع تنموي في ظل اقتصاد عالمي تسيطر عليه الرأسمالية، التي اعتبرتها إيران على مدار ما يزيد عن ثلاثة عقود عدوها الأكبر.
عام 2016 وبداية عام 2017، أظهرا مجموعة من المؤشرات، التي يمكن اعتبارها بداية قياس حقيقي لأداء الاقتصاد الإيراني، وهذه أبرز المؤشرات التي تعكس حالة من الوهن لهذا الاقتصاد.
قد يكون الخبر صادماً للوهلة الأولى، من أن إيران التي تعد من أكبر منتجي ومصدري الغاز في العالم تستورده من تركمانستان بموجب اتفاقية 1997، وذلك لإمداد المناطق الشمالية بالغاز، خاصة في فصل الشتاء.
تبين الإحصاءات أن إيران لديها 34 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز، وبما يمثل 17.2% من إجمالي احتياطيات العالم، كما أن إنتاجها السنوي 199 مليار متر مكعب، وبما يمثل 5.7% من الإنتاج العالمي.
والخلاف الإيراني مع تركمانستان يرجع إلى وجود مستحقات تقدر بـ1.8 مليار دولار. وبيت القصيد هنا، هو أن الذي أجبر إيران على استيراد الغاز رغم امتلاكها كميات كبيرة منه، وتصدّره، هو إما عجز في البنية التحتية بهذه المناطق، إما معوقات طبيعية، وهو ما يضع الحكومة أمام مسؤولية تنموية وسياسية، فقد تستغل هذه القضية كأحد مجالات الضغط على إيران، ويحرم مواطنيها من سلعة استراتيجية، خاصة في الشتاء.
ركّز الخطاب السياسي لإيران على الاستغناء عن ربط عملتها بالدولار، وأنها تتجه لتنفيذ عمليات تصدير النفط بواسطة عملات أخرى، وإن كان ذلك تم بشكل إجرائي في بعض الصفقات ولبعض السنوات، إلا أن إيران ستجد نفسها في النهاية مضطرة إلى التعامل بالدولار، لاعتبارات تتعلق بطبيعة الاقتصاد العالمي، الذي يدور في فلك العملة الأميركية.
ويلاحظ، خلال الفترة الماضية، أن العملة الإيرانية تشهد تراجعاً كبيراً، بسبب ارتفاع قيمة الدولار في السوق العالمي بشكل عام، وانهيار العديد من عملات الدول النامية أمامه، ومن بينها إيران، فقد بلغت قيمة الدولار في ديسمبر/ كانون الأول 2016 نحو 41.5 ألف ريال إيراني، بعد أن كانت قيمته 35.7 ألف ريال في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه.
وثمة تخوفات بشأن مستقبل العملة الإيرانية، بعد تولي دونالد ترامب السلطة في أميركا بعد أيام قليلة، حيث يتوقع أن تتم إثارة مشكلات بشأن الاتفاق النووي مع إيران، أو تشدد أميركا في تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيران، ما يفقدها القدرة بشكل أفضل على توفير العملات الصعبة.
والنتيجة في حالة وقوع السيناريو الأسوأ بالتراجع في الاتفاق النووي أو تشديد العقوبات، انهيار العملة الإيرانية أكثر مما هي عليه، ويحمل ذلك في طياته مزيدا من الأعباء على المواطن الإيراني، ومعايشة إيران ما يسمى بالتضخم المستورد.
إن صفقات استيراد إيران للطيران والسفن، وتعاقدها مع شركات أجنبية على إنشاء محطات لإنتاج الكهرباء، تجعل من إيران سوقا لاستيراد التكنولوجيا شأنها في ذلك شأن باقي الدول النامية، وكان يتوقع بعد سنوات العقوبات الاقتصادية، أن تكون إيران قد أعدت لهذه المرحلة من إنتاج التكنولوجيا.
مع بداية عام 2017 أعلن عن عقد بين إيران وكوريا الجنوبية، تقوم بموجبه إيران باستيراد 10 سفن تجارية عملاقة من كوريا، وتقدر قيمة الصفقة بـ650 مليون دولار.
وكانت إيران قد أعلنت منذ أشهر عن صفقة استيرادها لطائرات أميركية تصل لنحو 100 طائرة بوينغ لتطوير أسطولها المدني.
وبلا شك أنه إذا استمر رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران دون منغصات أميركية، فسوف تستمر في استيراد العديد من السلع، ولن يتوقف الأمر فقط على الطائرات والسفن، أو استيراد تكنولوجيا إنشاء محطات إنتاج الكهرباء، ولكنه سيشمل كافة السلع بما فيها السلع الاستهلاكية.
وحتى المعدات العسكرية، تتوسع إيران بشكل كبير في استيرادها من خلال الصين وروسيا، وهو ما يظهر بوضوح من خلال الإعلان عن استيراد طائرات بدون طيار وغيرها، ومعنى ذلك أنه من المبكر أن تنافس إيران في مجال التصنيع العسكري، أو تقوم بتوفير الجانب الأكبر من احتياجاتها من السلاح والعتاد العسكري.
يعد الاستثمار الأجنبي المباشر أحد أهم مظاهر الاندماج في الاقتصاد العالمي، وعلى الرغم مما له من إيجابيات، إلا أن له سلبيات أخرى، خاصة في حالة إيران، حيث تتركز هذه الاستثمارات في الصناعات الاستخراجية للنفط والغاز. واستمرار الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية في هذا الخصوص، يجعل إيران في موقف المتغير التابع في معادلة الاستفادة من مواردها النفطية، وهي بذلك لا تختلف عن استراتيجية دول الخليج.
وأخيراً، أعلنت وزارة الطاقة الإيرانية عن السماح لـ29 شركة أجنبية بالتقدم للاستثمار في قطاع النفط والغاز الطبيعي، وكثيرًا ما يُعلق مسؤولو الطاقة الإيرانيون تطوير حقولهم النفطية على الاستثمارات الأجنبية.
وهذه سلبية توضح ضعف الإمكانيات الإيرانية، إما بسبب ضعف الإمكانيات الإيرانية الذاتية، أو بسبب توسع إيران على مدار السنوات الماضية في الإنفاق على مشروعها التوسعي في المنطقة، وتمويلها حروبا في كل من سورية واليمن والعراق ولبنان.
لا يزال الاقتصاد الإيراني من حيث الحجم غير مؤثر بشكل كبير في المحيط الإقليمي أو العالمي، فقيمة الناتج المحلي الإجمالي لا تتجاوز 450 مليار دولار، وتعتمد إيران بشكل كبير على صادرات النفط في إيراداتها العامة، وكذلك ناتجها المحلي، ومع ذلك تبنت إيران نهجًا توسعيًا في إطار عسكري حربي في المنطقة، ما كبدها تكاليف اقتصادية عالية. ونظرًا لكون الاقتصاد الإيراني مغلقًا وتغيب عنه الشفافية في ما يتعلق ببياناته الاقتصادية، لا يعلن عن حقيقة التكاليف الاقتصادية لدخول إيران معترك الحرب في سورية واليمن والعراق ولبنان.
ولا شك في أن إيران كان أمامها مسار آخر، وهو المسار التنموي الاقتصادي، من خلال تعاونها مع دول المنطقة العربية، وكانت نتائجه ستكون أكثر إيجابية على إيران وعلى المنطقة ككل، بينما نهج إيران الحالي يدفع بها إلى مزيد من التبعية للاقتصاد الرأسمالي، وإن كانت القيادات الإيرانية ما زالت تتبنى خطابًا سياسيًا معاديًا للغرب وأميركا، بينما واقعها يخالف ذلك بالتوسع في وارداتها من تلك الدول.